معارف إِلٰهيَّة : ( 29) قضايا و تنبيهات / القضيَّة و التَّنْبِيه التاسع و العشرون
23/04/2024
القضيَّة و التَّنْبِيه التاسع و العشرون: / بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على محمد واله الطاهرين ، واللَّعنة الدَّائمة على أَعدائهم اجمعين. /دين اللَّه لا يُصَاب بعقول البشر/ إِنَّ التَّفسير الدارج للقاعدة والمقولة الوحيانيَّة العظيمة الواردة في بيانات الوحي ، منها : بيان الإِمام زين العابدين عليه السلام : «إِنَّ دين اللّٰـه لا يُصاب بالعقول ... ولا يُصَاب إِلَّا بالتَّسليم ، فَمَنْ سَلَّمَ لنا سَلِم ، وَمَنْ اهتدىٰ بنا هُدي ، وَمَنْ دان بالقياس والرأي هَلَك ، وَمَنْ وجد في نفسه شيئاً مِمَّا نقوله أَو نقضي به حرجاً كفر بالَّذي أَنزل السبع المثاني والقرآن العظيم وهو لا يعلم»(1)من اختصاصها بتشريعات الفروع ليس بسديدٍ ؛ فإِنَّها شاملة أَيضاً، بل أَبرز مصاديقها : أُصول الدِّين وسائر العقائد والمعارف الإِلٰهيَّة ، وشاملة أَيضاً لأَحكام الأَخلاق والآداب والسنن والأَعمال والحالات والرياضات الرُّوحيَّة والنَّفسيَّة. والنكتة واضحة ؛ فإِنَّ العقل بمفرده يتيه في هذه المباحث والأَبواب ؛ لكونها خارجة عن حريمه وعالمه وحدوده ومكنته ، فلا بُدَّ له من الاهتداء ببيانات الوحي ، بل كلَّما ارتقت وتصاعدت معاني وحقائق أُصول الدِّين والعقائد والمعارف الإِلٰهيَّة ، ومعاني وحقائق الأَخلاق والآداب والسُّنن ؛ والأَعمال والحالات والرياضات الروحيَّة والنَّفسيَّة ، ومعاني وحقائق فروع الدِّين كُلَّما ازدادت الحاجة أَكثر إِلى هدي بيانات الوحي. وبالجملة : الجزء الأَعظم من الدِّين وعمدته يكمن في العقائد والمعارف الإِلٰهيَّة ، فيكون التَّفسير المناسب لهذه القاعدة : أَنَّ جملة دين اللّٰـه وشرعه لا يُصَاب بالعقول. ومعناه : أَنَّه لا يُمكن استبداد عقول البشر وذواتهم وقواهم الإِدراكيَّة مهما عَلَت وارتقت من الوصول إِلى حقائق العقائد والمعارف الإِلٰهيَّة ؛ لأَنَّها موجودات نوريَّة حيَّة شاعرة ، من عوالم نوريَّة صاعدة ، فوق عَالَم العقل وعوالم طبقات حقائق ذوات البشر وأَرواحهم الصَّاعدة. لكن : هذا لا يعني تشطيب لدور العقل وإِقصائه ، كيف وهو والُمخاطب الأَوَّل بالدِّين. فانظر : بيانات الوحي ، منها : 1ـ بيان الإِمام الباقر عليه السلام : «لَـمَّا خَلَقَ اللّٰـهُ العقلَ اسْتَنْطَقَهُ ثُمَّ قال له: أَقْبِل ، فَأَقْبَل ، ثُمَّ قال له : أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ . ثُمَّ قال : وعِزَّتِي وجَلَالي ، مَا خَلَقْتُ خَلْقاً هو أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْكَ ، ولا أَكْمَلْتُكَ إِلَّا فِيْمَنْ أُحِبُّ ، أَمَا إِنِّي إِيّاك آمُرُ، وإِيَّاكَ أَنْهىٰ ، وَإِيّاكَ أُعَاقِب ، وَإِيّاكَ أُثِيبُ»(2). 2ـ بيان الإِمام الصَّادق عليه السلام : «... إِنَّ اللّٰـهَ عزَّوجلَّ خَلَقَ العقل ، وهو أَوَّلُ خَلْقٍ من الرُّوحَانِّيينَ عن يمين العرش من نورهِ ، فقال له : أَدْبِرْ ، فَأَدْبَرَ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ : أَقْبِل ، فَأَقْبَل ، فقالَ اللّٰـه تبارَكَ وتعالىٰ : خَلَقْتُكَ خَلْقاً عَظِيماً ، وكرَّمْتُكَ على جميع خلقي ...»(3). وإِنَّما يعني : عدم صحَّة استبداد العقل في إِقامة أَقيسة الاستدلال في أَبواب العقائد والمعارف الإِلٰهيَّة وفروع الدِّين لاستكشاف الحقيقة ، فدين اللّٰـه وشرعه لا يُصَاب بانفراد وتفرُّد العقل. فلاحظ : بيانات الوحي ، منها : 1ـ بيان الإِمام الصَّادق عليه السلام ، عن الحسن بن عَمَّار ، قال : «... قِيْلَ له : فهل يكتفي العباد بالعقل دون غيره؟ قال : إِنَّ العاقل لدلالة عقله الَّذي جعلهُ اللّٰـه قِوَامَهُ وزينته وهدايته ، عَلِمَ أَنَّ اللّٰـه هو الحقُّ ، وأَنَّه هو رَبُّهُ ، وعَلِمَ أَنَّ لخالقه مَحَبَّةً ، وأَنَّ له كراهية ، وَأَنَّ له طاعةً ، وأَنَّ له معصيةً ، فلم يجد عقلهُ يَدُلُّهُ على ذلك ، وَعَلِمَ أَنَّه لا يُوصَلُ إِليه إِلَّا بالعلم وطلبه ، وأَنَّه لا يَنْتَفِعُ بعقله إِنْ لم يُصِبْ ذلك بعلمه ، فوَجَب على العاقل طلب العلم والأَدَبِ الَّذي لا قوامَ له إِلَّا به»(4). 2ـ بيان الإِمام موسىٰ الكاظم عليه السلام : «... نَصْبُ الحقِّ لطاعة اللّٰـه ، ولا نجاة إِلَّا بالطَّاعة ، والطَّاعة بالعِلْم ، والعِلْمُ بالتَّعَلُّم ، والتَّعَلُّمُ بالعقل يُعْتَقَدُ ، ولا عِلْمَ إِلَّا من عَالِمٍ رَبَّانِيٍّ ، ومعرِفَةُ العلم بالعقل ...»(5). ودلالته ـ كدلالة سابقه ـ واضحة. وعلى هذا قس أَشباه ونظائر هذا البيان الوحيانيّ الشَّريف(6)، كبيان الإِمام الصَّادق عليه السلام : «... والسُّنَّة إِذا قيست محق الدِّين»(7). ومن ثَمَّ إِذا أَراد أَصحاب جملة المدارس المعرفيَّة البشريَّة ـ فلاسفة أَو عرفاء كانوا أَم غيرهم ـ الوصول إِلى جواهر ودرر ولباب العقائد والمعارف الإِلٰهيَّة بعقولهم وفلسفتهم وعرفانهم وما شاكلها بمنأىٰ عن بيانات الوحي فهذه حوالة على مُفلِّس ؛ ولن يصلوا أَبداً ، والواقع الخارجي يشهد عليهم ـ نتيجة هذا السلوك ـ بإخفاقات حصلت لهم في لبِّ لباب التَّوحيد فضلاً عن غيره ، ومن ثَمَّ وقعوا في شراك الشرك والكفر الخفي ، المشمول بقوله تعالىٰ :[ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ] (8). نعم ، لا بأس بتجنيد جهود أَصحاب المدارس المعرفيَّة البشريَّة ونتاجاتهم لقراءة بيانات وعلوم ومعارف الوحي الإِلٰهيّ. ومنه يتَّضح : مدىٰ ضحالة ما يقوم به أَصحاب المذاهب والمدارس المعرفيَّة ؛ فإِنَّهم يأتون بأَقوالٍ وآراءٍ وفتاوىٰ علماء البشر لتوسعة أُفق البحث العقائدي والمعرفي ، ويعرضون عن ما يأتي به كُمَّل المخلوقات : رسل الغيب ورجالات الوحي ـ رأس هرمهم أَهل البيت صلوات اللّٰـه عليهم ـ ، فأَيُّ تعصُّبٍ أَعمىٰ هذا. بعد الإِلتفات : أَنَّ عقول كُمَّل المخلوقات فوق عقول سائرالبشر. فانظر : بيانات الوحي ، منها : أَوَّلاً : بيان سيِّد الأَنبياء صلى الله عليه واله : «... ولا بَعَثَ اللّٰـهُ نبيّاً وَلَا رَسُولاً حتَّىٰ يستكمِل العقل ، ويكون عقلُهُ أَفضل مِنْ جميع عُقُول أُمَّتِهِ»(9). ثانياً : بيانه صلى الله عليه واله ، مُنْضَمّاً إِليه بيان الإِمام الصادق عليه السلام ، قال : «مَا كلَّمَ رسولُ اللّٰـه صلى الله عليه واله العِبَادَ بِكُنْه عَقْلِهِ قَطُّ». وقَالَ : قَالَ رسولُ اللّٰـهِ صلى الله عليه واله : «إِنَّا مَعَاشِرَ الأَنبياء أُمِرْنَا أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ على قَدْرِ عُقُولِـهِمْ»(10). ودلالتهما واضحة. إِذَنْ : الوحي لا يدعو إِلى عدم تحكيم العقل ، ولا يدعو إِلى قراءة الوحي بلغة حسيَّة أَو لغة عاطفيَّة ، وإِنَّما يدعو إِلى قراءة وفهم بيانات الوحي العقائديَّة والمعرفيَّة وقراءة سائر الحقائق بلغة وبراهين عقليَّة ، لكن من خلال الخوض في نتاج بحور بيانات الوحي الطمطامة غيرالمتناهية وهدايتها. ولَكَ أَنْ تقول : على الباحث والمُسْتَنْبِط للنتائج في أَبواب العقائد والمعارف الإِلٰهيَّة كما يقرأ كلام علماء البشر بقراءة عقليَّة عميقة عليه أَنْ يقرأ أَيضاً كلام الوحي بقراءة عقليَّة عميقة ، ويكون التَّعامل على وفق قاعدة : «أُنظر إِلى ما قيل ولا تنظر إِلى مَنْ قال» ، وكما يعكف الباحث الدَّهر كُلّه على قراءة كلام فيلسوفٍ أَو عارفٍ بشريٍّ فليعكف أَيضاً الدَّهر كُلّه على قراءة بيانات الوحي. والغريب أَنَّ الكثير من الفلاسفة والعرفاء إِذا طُلب منهم ذلك أَجابوا: أَنَّ ذلك مسلكٌ إِخباريٌّ حشويٌّ قشريٌّ ، لكن نقول له : مَنْ قال لكَ اِقرأ بيانات الوحي بقراءة حشويَّة قشريَّة ، ولا تغوص في أَعماق بحور معاني وحقائق كلمات الوحي ، بل عمدة التَّعَبُّد هو : «التَّعَقُّل» ، لكن برافد وعين الوحي النوريَّة. وهذه المُؤاخذة لا تُسجَّل على الفلاسفة والعرفاء حسب ، بل على كُلِّ مَنْ لم يجعل الأَربعة عشر معصوماً عليهم السلام هم المدار ، وهذا نحو صنميَّة تقف أَمام الوحي لتعطيله. وصلى الله على محمد واله الاطهار . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) بحار الأَنوار ، 2 : 303/ح41. (2) أصول الكافي ، 1 : 11/ح1. (3) المصدر نفسه : 17/ح4. (4) أصول الكافي ، 1 : 22/ح34. (5) المصدر نفسه : 13/ح12. (6) المراد من البيان الوحياني : ما تقدَّم في صدر المبحث ، وهو : بيان الإِمام زين العابدين عليه السلام : «إِنَّ دين اللّٰـه لا يُصاب بالعقول ...». (7) وسائل الشيعة ، 29 : 352/ح1. الكافي ، 7 : 299/ح6. (8) يوسف : 106. (9) أُصول الكافي ، 1 : 12/ح11. (10) المصدر نفسه : 19/ح15.