معارف إِلٰهيَّة : ( 51 ) قضايا و تنبيهات / القضيَّة و التَّنْبِيه الحادي و الخمسون
23/04/2024
القضيَّة و التَّنْبِيه الحادي و الخمسون: / بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على محمد واله الطاهرين ، واللَّعنة الدَّائمة على أَعدائهم اجمعين . / تفسير أَسماء وصفات وأَفعال أَهل البيت عليهم السلام بلغة حضاريَّة / إِنَّه بعدما كانت حقائق أَهل البيت صلوات اللّٰـه عليهم الصَّاعدة موجودات في عوالم علويَّة صاعدة ، وكانت أَسماء وصفات إِلٰهيَّة حاكمة على جملة العوالم وكافَّة المخلوقات غيرالمتناهية ، وتُديرها وتُدبِّر أُمورها وشؤونها وأَحوالها كانت أَسمائهم صلوات اللّٰـه عليهم وأَوصافهم وأَفعالهم منظومة ودورة معارف ؛ يبلغ المُتدبِّر بها أَعالي الجنان ، ويسبح ويغور في بحور عوالم معارف غير متناهية. وعليه : فينبغي أَنْ لا تُفسَّر ولا تُقرأ بسطحيَّة وبلغة جافَّة؛ وأَنْ لا تُحصر بالبُعد النَّفسي والفردي ، بل لا بُدَّ أَنْ تُفسَّر وتُقرأ بتفسير وقراءة عصريَّة حضاريَّة ، وبالبُعد المجتمعي والأُممي والحضاري الإِلٰهيّ ، وبالبُعد العوالمي الشَّامل لجملة عوالم الخلقة ومخلوقاتها غيرالمتناهية. وخذ على ذلك الأَمثلة التالية : / شجاعة أَهل البيت عليهم السلام شجاعة قيادة إِلهيَّة / الأَوَّل : (شجاعة أَهل البيت صلوات اللّٰـه عليه) ؛ فإِنَّها وإِنْ كانت تحتاج إِلى عضلات بدنيَّة ، وجرأة نفسيَّة وروحية وعقليَّة وغيرها من الأَبعاد الفرديَّة ، لكنَّها لا تقتصر على ذلك ، بل هي شجاعة أُمميَّة ومجتمعيَّة وحضاريَّة وقيادة إِلٰهيَّة ؛ يتحمَّلون فيها مصير أَجيال جملة المخلوقات وفي طُرِّ العوالم ، فشجاعتهم صلوات اللّٰـه عليهم ليست كشجاعة عنترة بن شداد ـ مثلاً ـ تحتاج إِلى عضلات وجرأة نفسيَّة وروحيَّة فحسب ـ كما كُنَّا ولا زلنا نلهج بهذا التَّفسير المُنحط والخاطئ ، وأشعارنا وأَدبيَّاتنا وخطاباتنا وكتاباتنا ومنابرنا قائمة على ذلك ، والمُضرّ بهم صلوات اللّٰـه عليهم أَشدُّ من دون قياس من إِضرار يزيد بن معاوية وجيشه (عليهم لعائن اللّٰـه) بأَهل البيت صلوات اللّٰـه عليهم ؛ لأَنَّ تلك قتلت الأَبدان وحرمت أَهلها حياة فانية ، بينما هذه قتلت وتقتل أَرواح ومعارف وعلوم أَهل البيت عليهم السلام وتحرم المسلمين ، بل البشريَّة ، بل المخلوقات حياة أَبديَّة ، ومن ثَمَّ تحتاج نفوسنا وأَرواحنا وعقولنا وقلوبنا وطبقات حقائقنا ووجوداتنا إِلى التطهير من نجاسة ورجاسة هذه التفسيرات ـ وإِنَّما قُطْب أَقطاب شجاعتهم صلوات اللّٰـه عليهم : قيادة إِلٰهيَّة. وهذا ما تشير إِليه بيانات الوحي ، والنقول التأريخيَّة(1)، منها : 1ـ بيان أَمير المؤمنين صلوات اللّٰـه عليه : «... أَنَا أَخو رسول اللّٰـه وابن عمِّه ، وسيف نقمته ، وعماد نصرته ، وبأسه وشدَّته ، أَنَا رحىٰ جهنَّم الدائرة ، وأَضراسها الطَّاحنة ، أَنا مؤتم البنين والبنات ، وقابض الأَرواح، وبأس اللّٰـه الَّذي لا يردّه عن القوم المجرمين ، أَنا مجدل الأَبطال وقاتل الفرسان ، ومبير من كفر بالرحمٰن ...»(2).(3) 2ـ بيانه صلوات اللّٰـه عليه أَيضاً : «... واللّٰـه لو تظاهرت العرب على قتالي لما ولَّيت ، ولو أَمكنتني الفرصة من رقابها لما بقَّيت ...»(4). 3ـ بيانه صلوات اللّٰـه عليه أَيضاً ، في إِجابته لليهوديّ الَّذي سأل عن علامات الأَوصياء ، قال : «... وأَمَّا السَّادسة يا أَخا اليهود فإِنّا وردنا مع رسول اللّٰـه صلى الله عليه واله مدينة أَصحابك خيبر على رجالٍ من اليهود وفرسانها من قريش وغيرها ، فتلقَّونا بأَمثال الجبال من الخيل والرِّجَال والسلاح ، وهم في أَمنع دارٍ ، وأَكثر عدد ، كُلّ ينادي يدعو(5) ويبادر إلى القتال ، فلم يبرز إِليهم من أَصحابي أَحد إِلَّا قتلوه ، حتَّىٰ إِذا احمَّرت الحدق ، ودُعيتُ إِلى النِّزال، وأهمَّت كلّ امرئ نفسه ، والتفت بعض أَصحابي إِلى بعض وكلّ يقول : يا أَبا الحسن ، انهض ، فأنهضني رسول اللّٰـه صلى الله عليه واله إِلى دارهم ، فلم يبرز إِلَيَّ منهم أَحدٌ إِلَّا قتلته ، ولا يثبت لي فارس إِلَّا طحنته ، ثُمَّ شددتُ عليهم شَدَّة اللَّيث على فريسته حتَّىٰ أَدخلتهم جوف مدينتهم مسدّداً عليهم ، فاقتلعتُ باب حصنهم بيدي حتَّىٰ دخلتُ عليهم مدينتهم وحدي ، أَقتل مَنْ يظهر فيها من رجالها ، وأَسبي مَنْ أَجد من نسائها حتَّىٰ افتتحتها وحدي ، ولم يكن لي فيها معاون إِلَّا اللّٰـه وحده»(6). 4ـ ما ورد عن أَحواله صلوات اللّٰـه عليه يوم خيبر أَيضاً ، عن أَبي رافع مولىٰ رسول اللّٰـه صلى الله عليه واله ، قال : «فلَمَّا دنا من الحصن خرج إِليه أَهله فقاتلهم ، فضربه رجلٌ من اليهود فطرح ترسه من يده ، فتناول عَلِيٌّ عليه السلام باب الحصن فتترَّس به عن نفسه ، فَلَم يَزَلْ في يده وهو يُقاتل حتّىٰ فتح اللّٰـه عليه، ثُمَّ أَلقاه من يده ، فلقد رأيتني في سبعة نفر أَنا منهم نجهد على أَنْ نقلب ذلك الباب فما استطعنا أَنْ نقلبه»(7). 5ـ عن أَبي جعفر عليه السلام ، قال : «حدَّثني جابر بن عبد اللّٰـه : أَنَّ عليّاً عليه السلام حَمَلَ الباب يوم خيبر حتَّىٰ صعد المسلمون عليه ، فاقتحموها ففتحوها ، وإِنَّه حُرِّك بعد ذلك فَلَمْ يحمله أَربعون رجلاً»(8). وعن جابر أَيضاً : «ثُمَّ اجتمع عليه سبعون رَجُلاً فكان جهدهم أَنْ أَعادوا الباب»(9). 6ـ عن عبد اللّٰـه بن عمرو بن العاص ، قال : «إِنَّ رسول اللّٰـه صلى الله عليه واله دفع الرَّاية يوم خيبر إِلى رَجُلٍ من أَصحابه فرجع منهزماً ، فدفعها إِلى آخر فرجع يُجبِّن أَصحابه ويُجبِّنونه ، قد ردَّ الرَّاية منهزماً ، فقال رسول اللّٰـه صلى الله عليه واله: «لأُعطين الراية غداً رَجُلاً يحبُّ اللّٰـه ورسوله ، ويحبُّه اللّٰـه ورسوله ، لا يرجع حتَّىٰ يفتح اللّٰـه على يديه» فَلَمَّا أصبح قال : ادعوا لي عَلِيّاً ، فقيل له : يا رسول اللّٰـه ، هو رمد، فقال : ادعوه ، فلمَّا جاء تفل رسول اللّٰـه صلى الله عليه واله في عينيه وقال: «اللَّهُمَّ ، ادفع عنه الحرّ والبرد» ثُمَّ دفع الراية إِليه ومضىٰ ، فَمَا رجع إِلى رسول اللّٰـه صلى الله عليه واله إِلَّا بفتح خيبر. ثُمَّ قال : إِنَّه لَـمَّا دَنَا من القموص أَقبَلَ أَعداء اللّٰـه من اليهود يرمونه بالنَّبل والحجارة ، فحمل عليهم عَلِيّ عليه السلام حتَّىٰ دَنَا من الباب ، فثنَّىٰ رجله ثُمَّ نزل مغضباً إِلى أَصل عتبة الباب فاقتلعه ، ثُمَّ رمىٰ به خلف ظهره أَربعين ذراعاً. قال ابن عمرو : ما عجبنا من فتح اللّٰـه خيبر على يدي عَلِيّ عليه السلام ، لكنَّا عجبنا مِنْ قلعه الباب ورميه خلفه أَربعين ذراعاً ، ولقد تكلَّف حمله أَربعون رجلاً فما أَطاقوه...»(10). 7ـ عن الإِمام الصَّادق ، عن آبائه عليهم السلام : «إِنَّ أَمير المؤمنين عليه السلام قال في رسالته إلى سهل بن حنيف & ، واللّٰـه ما قلعتُ باب خيبر ورميت به خلف ظهري أَربعين ذراعاً بقوَّة جسديَّة ، ولا حركة غذائيَّة ، لكنِّي أُيدتُ بقوَّةٍ ملكوتيَّةٍ ، ونفس بنور ربِّها مضيئة ...»(11). 8ـ سأل عمر أَمير المؤمنين عليه السلام عن ذلك اليوم : «يا أبا الحسن ، لقد اقتلعتَ منيعاً ، وأَنتَ ثلاثة أَيَّام خميصاً ، فهل قلعتها بقوَّةٍ بشريَّةٍ ؟! فقال : ما قلعتها بقوَّةٍ بشريَّةٍ ، ولكن قلعتُها بقوَّةٍ إِلٰهيَّة ، ونفس بلقاء ربِّها مطمئنَّة رضيَّة»(12). 9ـ عن سلمان الفارسي ، قال : «... قلنا : يا أَمير المؤمنين ، من هؤلاء ؟ قال: بقيَّة قوم عاد ، كُفَّار لا يؤمنون باللّٰـه (عزَّوجلَّ) أَحببتُ أَن أُريكم إِيّاهم ، وهذه المدينة وأَهلها أُريد أَنْ أهلكهم وهم لا يشعرون. قلنا : يا أمير المؤمنين ، تهلكهم بغير حُجَّة ؟ قال: لا ، بل بحُجَّةٍ عليهم. فدنا منهم وترآءىٰ لهم ، فَهَمُّوا أَنْ يقتلوه ، ونحن نراهم وهم يرون(13)، ثُمَّ تباعد عنهم ودنا مِنَّا ، ومسح بيده على صدورنا وأَبداننا وتكلَّم بكلماتٍ لم نفهمها ، وعاد إِليهم ثانية حتَّىٰ صار بإِزائهم وصعق فيهم صعقة. قال سلمان : لقد ظننَّا أَنَّ الأَرض قد انقلبت ، والسَّمآء قد سقطت ، وأَنَّ الصَّواعق مِنْ فيه قد خرجت، فَلَمْ يَبْقَ منهم في تلكَ السَّاعة أَحد ، قلنا : يا أمير المؤمنين ، ما صنع اللّٰـه بهم ؟ قال : هلكوا وصاروا كُلَّهم إِلى النَّار. قلنا : هذا معجز ، ما رأينا ولا سمعنا بمثله. فقال عليه السلام: أَتريدون أَنْ أُريكم أَعجب من ذلك ؟ فقلنا: لا نطيق بأسرنا على احتمال شيء آخر ، فَعَلَىٰ مَنْ لا يتوالاك ؛ ويؤمن بفضلكَ وعظيم قدرك على اللّٰـه عزَّوجلَّ لعنة اللّٰـه ، ولعنة اللاعنين والملائكة والخلق أَجمعين إِلى يوم الدِّين ...»(14). 10ـ ما ورد عن أَبي بكر مُخاطباً عمر ، ومُحذِّراً إِيّاه من أَمير المؤمنين صلوات اللّٰـه عليه : «... ناشدتك اللّٰـه يا عمر لَـمَا تركتني من أَغاليطكَ وتربيدكَ ، فواللّٰـه لو هَمَّ بقتلي وقتلكَ لقتلنا بشماله دون يمينه ، وما ينجينا منه إِلَّا ثلاث خصال ... أَنسيت له يوم أُحد وقد فررنا بأَجمعنا ، وصعدنا الجبل ، وقد أَحاطت به ملوك القوم وصناديدهم ، موقنين بقتله ، لا يجد عنه محيصاً للخروج من أَوساطهم ، فلَمَّا أَنْ سدَّد القوم رماحهم نكس نفسه عن دابَّته حتَّىٰ جاوزه طعان القوم ، ثُمَّ قام قائماً في ركابه وقد طرق عن سرجه ... ثُمَّ عهد إِلى رئيس القوم فضربه ضربة على رأسه فبقي على فكٍّ ولسان ، ثُمَّ عمد إِلى صاحب الراية العظمىٰ فضربه ضربة على جمجمته ففلقها ، فمرَّ السيف يهوي في جسده فبرأه ودابَّته نصفين ، فلَمَّا أَن نظر القوم إلى ذلك انحطوا من بين يديه ، فجعل يمسحهم بسيفه مسحاً حتَّىٰ تركهم جراثيم خموداً على تلعةٍ من الأَرض ، يتمرَّغون في حسرات المنايا ، يتجرَّعون كؤوس الموت ، قد اختطف أَرواحهم بسيفه ، ونحن نتوقَّع منه أَكثر من ذلك ، ولم نكن نضبط أَنفسنا من مخافته ، حتَّىٰ ابتدأتَ أَنتَ إِليه فكان منه إِليك ما تعلم، ولولا أَنَّه أَنزل اللّٰـه إِليه آية من كتاب اللّٰـه لَكُنَّا من الهالكين ، وهو قوله : [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ](15)...»(16). ودلالته ـ كدلالة سوابقه ـ واضحة. ثُمَّ إِنَّه ينبغي الإِلتفات في المقام إِلى النقاط الثلاث التَّالية : الأُوْلَىٰ : أَنَّ هناك مُميِّزات وخصائص ونعوت اختصَّ بها أَمير المؤمنين صلوات اللّٰـه عليه من بين جملة الخلائق ، منها : أَنَّ يد ساحة القدس الإِلٰهيَّة قدَّرت أَنْ لا يدخل صلوات اللّٰـه عليه في جيشٍ قَطُّ ويُهزَم. ومعناه : أَنَّ لسؤدده صلوات اللّٰـه عليه تموِّج بنحو يجعل الجيش الَّذي يُشارك فيه لا يُهزَمُ أَبداً. الثَّانية : أُصيب أَمير المؤمنين صلوات اللّٰـه عليه في معركة أُحد بجراحات عجيبة وبالغة الشدَّة والخطورة ، بقيت الزهراء صلوات اللّٰـه عليها تداويها وتعالجها لأَشهر عديدة ، ولعلَّه أُصيب فيها بجراحات أَكثر مِـمَّا أُصيب به بدن سيِّد الشهداء صلوات اللّٰـه عليه يوم العاشر من المُحرَّم ، والَّتي أَحصتها بيانات الروايات بـ : (1800) جرح ، وهذه ضريبة البطولة الَّتي قام بها صلوات اللّٰـه عليه في معركة أُحد. الثَّالثة : المعروف في كُتُب التأريخ : أَنَّ المسلمين انتصروا في بادي الأَمر في معركة أُحد لكنَّهم انهزموا بعد ذلك. والحقُّ : أَنَّ لهذه الواقعة تتمَّة حذفتها أَقلام أَصحاب السقيفة والدولة الأُمويَّة ؛ لكونها مرتبطة بأَمير المؤمنين صلوات اللّٰـه عليه ، وهي : أَنَّ المسلمين انتصروا بعد ذلك ، فكانت خاتمة معركة أُحد إِنتصاراً للمسلمين. وهذا ما تُشير إِليه بيانات الوحي والقصَّاصات والنُّقول التأريخيَّة ، منها : ما ذكره أَبو بكر في هذا الدَّليل ، وما ذكره عمر في الدَّليل التَّالي ، ويضاف إِليهما : أَوَّلاً : بيان زيارة أَمير المؤمنين عليه السلام يوم الغدير ، عن الإِمام الهادي عليه السلام: «... ويوم أُحُدٍ إِذ يُصعِدُون ولا يلوُون على أَحدٍ ، والرَّسُولُ يدعوهم في أُخراهم ، وأَنتَ تذُودُ بُهَمَ المشركين عن النَّبيِّ ذات اليمين وذات الشَّمال ؛ حتَّىٰ رَدَّهُمُ اللّٰـهُ تعالىٰ عنكما خائفين ، ونَصَرَ بِكَ الخاذِلِين...»(17). ثانياً : لو كانت قريش قد انتصرت في نهاية المعركة فلماذا لم يغيروا على المدينة المنوَّرة ويسبوا نسائها وأَطفالها ، ويسلبوا أَموالها ، فقريش الَّتي أَكلت نساؤها كبد حمزة عليه السلام كيف يُعقل أَنْ لا تفعل ذلك ، وركبوا الجمال وانصرفوا إِلى مكَّة عائدين. ومنه يتَّضح : السِّرّ في ما بلغ إِليه أَمير المؤمنين صلوات اللّٰـه عليه من مقاماتٍ الهية ، بعدما لم يكن بين اللّٰـه (العزيز الجبَّار) وبين أَحدٍ من خلقه قرابة ، فاللّٰـه وإِنْ كان كريماً ، لكنَّه يعطي كُلَّ مخلوقٍ بحسبه. 11ـ ما ورد عن أَبي واثلة(18) شقيق بن سلمة ، قال : «كنتُ أُماشي عمر بن الخطَّاب إِذْ سمعتُ منه همهمة ، فقلتُ له : مه يا عمر ، فقال : ويحكَ، أَمَا ترىٰ الهزبر القثم ابن القثم الضَّارب بالبهم ، الشَّديد على مَنْ طغا وبغا(19) بالسَّيفين والراية ، فالتفتُ فإذا هو عَلِيُّ بن أبي طالب ، فقلتُ له : يا عمر ، هو عَلِيُّ بن أبي طالب ، فقال : ادن منِّي أُحدِّثُّكَ عن شجاعته وبطالته ، بايعنا النَّبيّ صلى الله عليه واله يوم أُحد على أَنْ لا نفرَّ ، وَمَنْ فَرَّ مِنَّا فهو ضال ، وَمَنْ قُتِلَ مِنَّا فهو شهيد ، والنَّبيّ صلى الله عليه واله زعيمه ، إِذْ حمل علينا مائة صنديد ، تحت كُلّ صنديدٍ مائة رَجُلٍ أَو يزيدون ، فأزعجونا عن طاحونتنا ، فرأيتُ عَلِيّاً كاللَّيث يَتَّقي الذر(20)، إِذْ قد حمل كفّاً مِنْ حصىٰ فرمىٰ به في وجوهنا ، ثُمَّ قال : «شاهت الوجوه ، وقُطَّت وبُطَّت ولُطَّت ، إِلى أَين تفرُّون ؟ إِلى النَّار ؟» فلم نرجع ، ثُمَّ كَرَّ علينا الثانية وبيده صفيحة يقطر منها الموت ، فقال : «بايعتم ثُمَّ نكثتم ، فواللّٰـه ، لأَنتم أَولىٰ بالقتل مِـمَّن أَقتُل» ، فنظرتُ إِلى عينيه كأَنَّهما سليطان يتوقَّدان ناراً ، أَو كالقدحين المملوّين دماً ، فما ظننتُ إِلَّا ويأتي علينا كلّنا، فبادرتُ أَنا إِليه من بين أَصحابي ، فقلت : يا أَبا الحسن ، اللّٰـه اللّٰـه ، فإنَّ العرب تفرّ وتكرّ ، وإِنَّ الكرَّة تنفي الفرَّة ، فكأنَّه استحيىٰ ، فولَّىٰ بوجهه عنِّي، فما زلتُ أُسَكِّن روعة فؤادي ، فواللّٰـه ما خرج ذلك الرُّعب من قلبي حتَّىٰ السَّاعة ...»(21). 12ـ احتجاجه صلوات اللّٰـه عليه في خبر الشورىٰ : «... نشدتكم باللّٰـه ، هل فيكم أَحَد قتل من بني عبد الدار تسعة مبارزة(22)، كلّهم بأخذ اللواء ، ثُمَّ جاء صُوأب الحبشي مولاهم وهو يقول : واللّٰـه لا أَقتُل بسادتي إِلَّا مُحمَّداً ، قد أَزبد شدقاه واحمرَّت عيناه ، فاتَّقيتموه وحُدتُم عنه ، فخرجتُ إِليه ، فلَمَّا أقبل كأنَّه قبَّة مبنيَّة ، فاختلفتُ أَنا و هو ضربتين ، فقطعته بنصفين ، وبقيت رجلاه وعجزه وفخذاه قائمة على الأَرض ، تنظر إِليه المسلمون ويضحكون منه؟ قالوا : اللَّهُمَّ ، لا»(23). 13ـ ما ورد في معركة صفين : «... وخرج العبَّاس بن ربيعة بن الحارث الهاشمي فأبلىٰ ... فقال معاوية : من خرج إِلى هذا فقتله فله كذا وكذا. فوثب رَجُلان من لخم من اليمن فقالا : نحن نخرج إِليه فقال : اخرجا ، فأيَّكما سبق إِلى قتله فله من المال ما ذكرتُ وللآخر مِثْل ذلك، فخرجا إِلى مقرِّ المبارزة وصاحا بالعبَّاس ، ودعواه إلى القتال ، فقال : استأذن صاحبي وأَعود إِليكما ، وجاء إِلى عَلِيٍّ عليه السلام ليستأذنه ، فقال له : أعطني ثيابكَ وسلاحكَ وفرسكَ ، ولبسها وركب الفرس وخرج إِليهما [فظنَّا] أَنَّه على العبَّاس ... فتقدَّم إِليه أَحد الرجلين فالتقيا ضربتين ، ضربه عَلِيّ عليه السلام على مراق بطنه قطعه بإثنتين ، فظنَّ أَنَّه أخطأه ، فلَمَّا تحرَّك الفرس سقط قطعتين، وغار فرسه وصار إِلى عسكر عَلِيّ عليه السلام ، وتقدَّم الآخر فضربه عَلِيٌّ عليه السلام فأَلحقه بصاحبه ... و... في وصف ليلة الهرير : ... إِنَّ قتلاه عرفوا في النهار ؛ فإنَّ ضرباته كانت على وتيرة واحدة ؛ إِن ضرب طولاً قَدَّ ، أَو عرضاً قَطَّ وكانت كأَنَّها مكواة بالنَّار»(24).(25) وعلى هذا قس : شجاعة سائرأَهل البيت صلوات اللّٰـه عليهم من أَصحاب الدائرة الاِصطِفائيَّة الأُولىٰ ، بل وأَصحاب الدائرة الاِصطِفائيَّة الثانية كـ : أَبي الفضل العبَّاس عليه السلام. وبالجملة : هناك فارق سنخيٌّ مهول وعظيم جِدّاً ، بل من دون قياس بين شجاعة وبطولة أَهل البيت صلوات اللّٰـه عليهم ؛ المُنطلِقة من الصفات والأَسماء الإِلٰهيَّة ـ كـ : اسم : (الجبَّار ، والمُتكبِّر ، والقهَّار ، والقابض ، والخافض ، والمُذِل ، والخبير ، والعظيم ، والمُقيت ، والحقّ ، والقوي ، والمتين، والمُميت ، والقادر ، والمُقتدِر ، والمتعال ، والمُنتَقِم ، ومالك المُلك ، والجامع ، والمانع ، والضَّار) ـ ، و شجاعة وبطولة ما عداهم ، المُنطلِقة من الصفات الرُّوحيَّة والنزعات النفسانيَّة. ومنه يتَّضح : أَنَّ ثبات أَمير المؤمنين صلوات اللّٰـه عليه يوم أُحد وما شاكله : ثبات كفاءة قيادة إِلٰهيَّة ، وشجاعة إِدارة ربانيَّة ، وثبات مُعالجة إِلٰهيَّة لحلحلة الأَزمات. بخلاف فرار جملة الصحابة في ذلك اليوم وما شاكله ؛ فإِنَّه: فرار عن كفاءة قيادة ، وجبن عن إِدارة ومعالجة وحلحلة الأَزمات. ومن ثَمَّ لا يجوز ولا يحقُّ لأَحدٍ منهم البَتَّة التَّصدِّي لإِدارة أُمور المسلمين أَو بعضهم ؛ وذلك من باب السالبة بانتفاء موضوعها. / زهد أَهل البيت عليهم السلام زهد قيادة إِلهيَّة / المثال الثَّاني : (زهد أَهل البيت صلوات اللّٰـه عليهم) ؛ فإِنَّه ليس زهداً نفسيّاً فرديّاً ، بل زهد أُممي ومجتمعي وحضاري ؛ وزهد قيادة إِلٰهيَّة ، ونظام تدبير إِلٰهي لجملة العوالم وكافَّة المخلوقات ، مُنطلِق من الأَسمآء والصفات والفضائِل الإِلٰهيَّة. / أَمانة أَهل البيت عليهم السلام / المثال الثَّالث : (أَمانتهم صلوات اللّٰـه عليهم) : فإِنَّها ليست فرديَّة وبُعداً نفسيّاً ، بل أَمانة أُمميَّة ومجتمعيَّة وحضاريَّة وأَمانة قيادة إِلٰهيَّة ، يُتحمَّل فيها مصير طُرّ العوالم وسائر المخلوقات ، مُنطلِقة من الأَسمآء والصفات والفضائل الإِلٰهيَّة. / عطف أَهل البيت عليهم السلام / المثال الرابع : (عطفهم ورأفتهم صلوات اللّٰـه عليهم) ؛ فإِنَّها ليست فرديَّة وذا بُعد نفسي فحسب ، بل عطف ورأفة أُمميَّة ومجتمعيَّة وحضاريَّة ، وعطف ورأفة قيادة إِلٰهيَّة ، وكفاءة نظام اقتصادي شامل لجملة أَرجاء الدولة الإِسلاميَّة الإِلٰهيَّة ؛ الشَّاملة لطرِّ العوالم وجميع المخلوقات ، مُنطلِقة من الأَسماء والصفات والفضائل الإِلٰهيَّة ، تشمل كافَّة طبقات المخلوقات المحرومة. / عدل أَهل البيت عليهم السلام / المثال الخامس : (عدلهم صلوات اللّٰـه عليهم) ؛ فإِنَّه ليس فرديّاً ونفسيّاً فحسب ، وإِنَّما عدل أُمَّة ومجتمع وحضارة ، وعدل إِدارة وقيادة ومنظومة إِلٰهيَّة ، وكفاءة نظام إِدارة وقيادة عادلة شامل لكافَّة أَرجاء الدولة الإِسلاميَّة الإِلٰهيَّة ؛ الشاملة لكلِّ العوالم وجملة المخلوقات ، مُنطلِقة من الأَسمآء والصفات والفضائل الإِلٰهيَّة. / بيعة الغدير لأَهل البيت عليهم السلام في الحاضرة الدوليَّة في العصر الراهن / ومن كُلِّ ما تقدَّم تتَّضح : فلسفة سجود وخضوع أَرواح وعقول نُخب البشريَّة في العصر الراهن ، وإِقرارها : بيعة غدير أُخرىٰ لأَمير المؤمنين ولسائر أَهل البيت الأَطهار صلوات اللّٰـه عليهم في أَروقة الأُمم المُتَّحدة على عهده صلوات اللّٰـه عليه لمالك الأَشتر & : «... ثُمَّ اعْلَم يا مالك ... النَّاس ... صنفان : إِمَّا أَخٌ لَكَ في الدِّين ، وإِمَّا نظيرٌ لَكَ في الخَلْقِ ...»(26).(27) وهذه أُمميَّة أَمير المؤمنين وسائر أَهل البيت صلوات اللّٰـه عليهم لا يصحُّ تفسيرها ببعد فرديٍّ أَو نفسيٍّ. / صفة : (كظم الغيظ) / وعلى هذا قس : سائر أَسماء وصفات وفضائل أَهل البيت عليهم السلام كـ : (صفة كظم الغيظ)(28)، فإِنَّ ما جرىٰ على الإِمام موسىٰ بن جعفر عليهما السلام في السجن ومكابدته ومعاناته ينبغي أَنْ لا يقتصر تفسيرها على البعد الفردي والنفسي ، وإِنَّما كظم غيظ أُمميّ ومجتمعيّ وحضاريّ ، وقيادة إِلٰهيَّة ، وكفاءة نظام إِدارة وقيادة إِلٰهيَّة شاملة لجملة أَرجاء الدولة الإِسلاميَّة الإِلٰهيَّة ؛ الشَّاملة لجميع العوالم وسائر المخلوقات ، مُنطلقة من الأَسماء والصفات والفضائل والأَفعال الإِلٰهيَّة ، ومن ثَمَّ استفزاز الدولة العبَّاسيَّة العظمىٰ(29) له صلوات اللّٰـه عليه ليس بما هو رَجُلٌ فردٌ ، بل بما لديه قاعدة شعبيَّة ، وإِمكانيَّات مجتمعيَّة وأُمميَّة وحضاريَّة وإِلٰهيَّة ، فأَرادت أَنْ تذهب به إِلى المنازلة المُعلنة ؛ كيما تُبيد إِنجازاته وإِنجازات آبائه وأَجداده المجتمعيَّة والأُمميَّة والحضاريَّة والإِلٰهيَّة العظيمة، وبنيانهم الحضاريّ والإِلٰهيّ الخطير، فكظم عليه السلام هذا الاستفزاز(30)، فأَراد هارون العبَّاسي السفيه(31) إِبادة حضارة دين الإِسلام وإِقامة مقامها : ما أَسَّسه من مجون وإِباحيَّة وانفلات ماديّ ، ولغة الدم والسجون ، فأَبىٰ صلوات اللّٰـه عليه إِلَّا أَنْ يجعل اللغة : لغة الإِنسانيَّة ، ولغة المنطق ، ولغة المبادئ ، ولغة العقل والتعقُّل ، وإِنْ استلزم ذلك إِبادة بدنه الشَّريف. وثوريَّته صلوات اللّٰـه عليه ليست كثوريَّة وتطرُّف الزيديَّة ؛ وثوريَّة الثوار وتطرُّفهم ، وتطرُّف الخط الثوري الأَحمق ، بل ثوريَّة حضارة وإِنسانيَّة. وبعبارة أُخرىٰ : اجتمعت في الإِمام الكاظم صلوات اللّٰـه عليه : سُنَّة الإِمام الحسن وسُنَّة الإِمام الحسين عليهما السلام ، فإِنَّ معاوية (عليه اللعنة) أَراد استفزاز الإِمام الحسن صلوات اللّٰـه عليه ليحاربه ؛ كيما يُبيد كُلَّ موروث أَصحاب الكساء عليهم السلام ، لكنَّه صلوات اللّٰـه عليه لم يعطه تلك الذريعة ، وحافظ على جيشٍ مُؤلَّفٍ من (70) أَلف مُقاتل مُحترف. إِذَنْ : ليس حال الإِمام الكاظم وسائر أَهل البيت صلوات اللّٰـه عليهم كحال الجموديِّين ـ خلافاً لِـمَا تخيَّله البعض ـ ، بل حراك من دون هوادة ، لكن بخُلقٍ وتعقُّلٍ. وإِلى هذا الخط تشير بيانات الوحي ، منها : بيان الإِمام الصَّادق عليه السلام : «... أَنَّ إِمارة بني أُميَّة كانت بالسيف والعسف والجور ، وأَن إِمامتنا بالرفق والتألف والوقار والتَّقيَّة ، وحسن الخلطة والورع والإِجتهاد ، فرغِّبُوا النَّاس في دينكم ، وفيما أَنتم فيه»(32). وصلى الله على محمد واله الاطهار . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) ينبغي الإِلتفات : أَنَّ التأريخ علم جَمّ ، ومواد خطيرة دائماً ، فإِنَّه ليس سلسلة أَحداث فحسب ، وإِنَّما عبارة عن حقول مُتعدِّدة ، وحضارة مُتجسِّدة ومُتجسِّمة في كلِّ أَبعادها ، ومن ثَمَّ لا بُدَّ أَنْ يقرأه ويدرسه المُتخصِّصون بعلوم عديدة ، منها : علم : (أَمنيّ) و(عسكريّ) و(نفسيّ) و(سياسيّ) و(اقتصاديّ) و(تجاري) و(صناعي) و(زراعي) و(حضاري) و(قانوني) و(حقوقي) و(أَخلاقي). (2) بحار الأَنوار ، 33 : 283/ح547. (3) يجدر الإِلتفات : أَوَّلاً : أَنَّ جميع أَسباب : القوَّة والقدرة والقيادة والإِدارة والحُكم وما شاكلها بيد أَهل البيت صلوات اللّٰـه عليهم ، لكنَّهم يستعملونها بطريقة سلميَّة ، مدنيَّة ، حضاريَّة. فراجع بياناتهم صلوات اللّٰـه عليهم وسِيَرهم وأَحوالهم وشؤونهم تجد صدق ما نقول واضحاً وجليّاً. ثانياً : أَنَّ أَحد أَسباب قوَّة وقدرة أَهل البيت صلوات اللّٰـه عليهم : أَنَّهم ينصفون عدوّهم قبل أَنْ ينصفوا وليَّهم ، فذاك أَمير المؤمنين صلوات اللّٰـه عليه يأمر ذويه بإِنصاف قاتله ابن ملجم (لعنة اللّٰـه عليه) حتَّىٰ في صغائر ومحقَّرات الأُمور ، مع أَنَّه اعتدىٰ عليه بالغدر والغيلة والفتك والدجل ، وبدناءة لا أَخلاقيَّة في المواجهة والمجابهة ، بل ولا أَخلاقيَّة في العدوان ، ومع كُلّ هذا وغيره لم يكن لِعَلِيّ الطهر صلوات اللّٰـه عليه إِلَّا الإِنصاف معه ، فأَي نفس هذه. (4) بحار الأَنوار ، 21 : 26/ح25. أَمالي الصدوق : 307. (5) خ . ل : (ويدعو). (6) بحار الأَنوار ، 38 : 179/ح1. الخصال ، 2 : 14 ـ 25. الاختصاص : 163 و 181. (7) بحار الأَنوار ، 21 : 4. (8) المصدر نفسه. (9) المصدر نفسه. (10) بحار الأَنوار ، 21 : 26/ح24. (11) المصدر نفسه /ح25. (12) بحار الأَنوار ، 21 : 40/ح37. (13) في المصدر : (وهم لا يروننا). (14) بحار الأَنوار ، 27 : 33 ـ 40/ح5. (15) النحل : 96. (16) بحار الأَنوار ، 29 : 140 ـ 145/ح30. الإِحتجاج ، 1 : 127 ـ 130. (17) بحار الأَنوار ، 97 : 365. (18) هكذا في الكتاب ومصدره ، وفيه وهم ، والصحيح : أَبي وائل. راجع : التقريب ، وأسد الغابة ، وغيرهما. (البحار). (19) هكذا في نسخة المُصنِّف. وفيه تصحيف. والصحيح : إِمَّا : (طغىٰ وبغىٰ) ، كما في المصدر ، أَو (طغا وبغىٰ). والأَوَّل يأتي من اليائي والواوي كليهما. (حاشية البحار). (20) خ . ل : (الدرق). (21) بحار الأَنوار ، 20 : 52 ـ 53. (22) في المصدر : (مبارزة غيري). (23) بحار الأَنوار ، 20 : 69/ح4. الخصال ، 2 : 121 و 124. (24) بحار الأَنوار ، 32 : 601/ح475. (25) ظنَّ كثير خطأً : أَنَّ غاية غايات أَمير المؤمنين صلوات اللّٰـه عليه من حرب الجمل وصفِّين والنهروان هزيمة وإِبادة الطرف ونسفه عسكريّاً ، والحقُّ : أَنَّ الَّذي كان يتوخَّاه أَمير المؤمنين صلوات اللّٰـه عليه وأنجزه : (فَقْئُ الفتنة). وإِلى هذا أَشارت بياناته صلوات اللّٰـه عليه ، منها : أَوَّلاً : بيانه عليه السلام : «... فأَنا فقأتُ عين الفتنة بباطنها وظاهرها ...». بحار الأَنوار ، 26 : 152ـ 153/ح40. المحتضر : 87. ثانياً : بيانه عليه السلام أَيضاً : «... فأَنا فقأتُ عين الفتنة ، ولم يكن ليجترئ عليها أَحد غيري ، بعد أَنْ ماج غيهبها ، واشتدَّ كلبها ...». بحار الأَنوار ، 41 : 348 ـ 349/ح61. نهج البلاغة ، 1: 199 ـ 201. ثالثاً : بيانه عليه السلام أَيضاً : «أنا فقأتُ عين الفتنة ، ولولا أَنا ما قوتل أَهل النهروان ولا أَصحاب الجمل ، ولولا أَنِّي أَخشىٰ أَنْ تتَّكلوا فتدعوا العمل لأخبرتكم بالَّذي قضىٰ اللّٰـه على لسان نبيّكم لـمَنْ قاتلهم ؛ مبصراً بضلالهم ، عارفاً للهدىٰ الَّذي نحن عليه». بحار الأَنوار ، 33 : 356/ ح588. رابعاً : بيان الإِمام الباقر في تفسيره لبيان أَمير المؤمنين عليهما السلام : «... فقأت عين الفتنة ، وأَقتل أُصول الضلالة ...». بحار الأَنوار ، 39: 348ـ 349/ح20. مناقب آل أَبي طالب ، 1 : 512 ـ 514. ودلالة الجميع واضحة ؛ فإِنَّه عليه السلام ـ مثلاً ـ بيَّن في حرب الجمل : أَنَّ أُمّ المؤمنين والصحابي يُقتلا إِذا زاغا عن جادَّة الدِّين وحارباه ؛ فإِنَّ مُوقعيَّة أُمّ المؤمنين والصحابي لا تعني المقايضة على أَصل الدِّين. وهذه البصيرة العظيمة وبيان المراتب أَعظم من دون قياس من الإِنتصار والحسم العسكري في معركة الجمل وهزيمة عائشة ومَنْ ضلَّ من الصحابة ، وأَعظم من دون قياس أَيضاً من الإِنتصار عسكريّاً على معاوية في حرب صفِّين ، فإِنَّ سن وترسيخ الثوابت الإِنسانيَّة ، بل الحضاريَّة العوالميَّة أَعظم من الحسم العسكري ، فمثلاً : كان المُعتقد السَّائد عند المسلمين دينيّاً وسياسيّاً : أَنَّ القرآن النَّاطق ـ وهو : الإِمام من أَهل البيت عليهم السلام ـ لا يعدل ولا يُعادل القرآن الصامت ـ المصحف الشريف ـ ، لكن : أَمير المؤمنين عليه السلام أَثبت في معركة صفِّين بطلان وضحالة هذا الإِعتقاد ؛ وأَنَّ القرآن الصامت لا يقي الفتنة ، ولا يعطي الهداية من دون القرآن النَّاطق. وهذه عبرة وبصيرة سنَّها وأَنجزها أَمير المؤمنين صلوات اللّٰـه عليه في معركة صفِّين أَعظم من إِبادة معاوية وجيشه. وعلى هذا قس ما حصل في معركة النهروان ؛ فإِنَّ ما حقَّقه صلوات اللّٰـه عليه فيها من إِنجاز حضاري أَعظم من دون قياس من الحسم والإِنتصار العسكري وهزيمة أَصحاب النهروان ؛ فإِنَّهم كانوا أَصحاب فتنة فقأها صلوات اللّٰـه عليه وبنىٰ فيها بصيرة حضاريَّة ، عظيمة وخطيرة في المسلمين ، بل في البشريَّة ، بل وفي جملة المخلوقات ؛ فإِنَّ الخوارج كانوا يتمترسون بـ : (سبُّوح قدُّوس) ، وبـ : شعار (لا حكم إِلَّا لِلّٰـه) ؛ وهو شعار حقّ وعدل ، لكن الزيغ كان يكمن في منهاجهم ، ومعناه : أَنَّ الشعار العادل ينبغي أَن لا يغرَّ العاقل ، فلا بُدَّ من النظر إِلى ما ورائه ، ومن ثَمَّ أَجاب صلوات اللّٰـه عليه عن شعارهم هذا : أَنَّه : «كلمة حقّ أُريد بها باطل...». بحار الأَنوار، 33 : 338/ح583، ومعناه : أَنَّ كلمة الحقّ قد تكون فتنة ؛ ومن ثَمَّ المصحف الشريف قد يكون فتنة ، وأُمومة المؤمنين قد تكون فتنة ، وصحبة سيِّد الأَنبياء صلى الله عليه واله قد تكون فتنة. وهذه الفتن لا تُرفع ولا تُفقأ عينها إِلَّا بأَهل البيت صلوات اللّٰـه عليهم. إِذَنْ : القرآن الصَّامت لا محالة يكون فتنة إِذا تُرك القرآن النَّاطق. ثُمَّ إِنَّه لا يمكن تأسيس هذه البصيرة وما شاكلها في المسلمين ، بل في جملة البشريَّة ، بل في كافَّة المخلوقات وفي طُرِّ العوالم إِلَّا بيد أَمير المؤمنين صلوات اللّٰـه عليه ؛ فإِنَّه مَنْ كان يجرأ على قتال أُمّ المؤمنين والصحابة كالزبير وطلحة إِذا عادوا أَصل الدِّين غير أَمير المؤمنين عليه السلام مؤسس دين الإِسلام بعد سيِّد الأَنبياء صلى الله عليه واله. والخلاصة : أَنَّ العبرة الَّتي توخَّاها أَمير المؤمنين عليه السلام من حروبه أَعظم من دون قياس من المكاسب السياسيَّة والعسكريَّة. وهذه بصيرة بنيويَّة عقائديَّة ، معرفيَّة ، حضاريَّة ، ونظام الدِّين ، تبقىٰ شاخصة إِلى ما بعد عَالَم الآخرة الأَبديَّة ، يجب على المخلوق الإِلتفات إِليها والعضّ عليها بضرس قاطع. (26) نهج البلاغة ، المختار من كتب أَمير المؤمنين عليه السلام ورسائله : 450 ـ 451/ 53 ، من عهد له عليه السلام ، كتبه للأشتر النخعي . (27) إِنَّ أَمير المؤمنين صلوات اللّٰـه عليه بيَّن في عهده هذا لمالك الأشتر & : كيفيَّة اللولب النسقي بين وظائف وأجنحة وأَعضاء الدولة. وبعدما يقرب من أَلف وأَربعمائة عام أَبصرت نخب البشر لما يقرب من مئتي دولة في الأُمم المُتَّحدة : أَنَّ في هذا العهد خارطة مستقبليَّة وكفوءة لإِدارة تنمية حضارة البشر. وهذا يُدلِّل ـ بعدما وصلت عقليَّة البشر في العصر الراهن في كيفيَّة إِدارة الدولة إِلى الحكومة الالكترونيَّة، وهي أَحد آليَّات الإِنسيابيَّة ـ على أَنَّ ما ذكره صلوات اللّٰـه عليه في هذا العهد معادلات جبَّارة. (28) لابأس بالإِلتفات إِلى أَنَّ صفة : (كظم الغيظ) وردت في بيانات الوحي في حقِّ اثنين من أَهل البيت عليهم السلام بصفةٍ خاصَّة : أَمير المؤمنين والإِمام موسىٰ الكاظم عليهما السلام ، أَمَّا سائرأَهل البيت عليهم السلام فإِنَّها تُذكر لهم بصفةٍ جمعيَّة. فانظر : بيانات الوحي الواردة في حقِّ أَمير المؤمنين عليه السلام ، منها : بيان زيارته عليه السلام يوم الغدير : «... وَأَشْهَدُ اَنَّكَ لَمْ تَزَلْ لِلْهَوى مُخالِفاً ، وَللِتُّقىٰ مُحالِفاً ، وَعَلى كَظْمِ الْغَيْظِ قادِراً ، وَعَنِ النّاسِ عافِياً غافِراً... وَأَنْتَ الْكاظِمُ لِلْغَيْظِ ، وَالْعافي عَنِ النّاسِ ، وَاللّٰـهُ يُحِبُّ الْـمُـحْسِنينَ...». بحار الأَنوار ، 97 : 360 ـ 368. ولاحظ : بيانات الوحي الواردة في حقِّ الإِمام موسىٰ بن جعفر عليهما السلام ، منها : بيان سيِّد الأَنبياء صلى الله عليه واله : «... أَوصيائي من بعدي بعدد نقباء بني إِسرائيل ... فإذا انقضت مدَّة جعفر قام بالأَمر بعده موسىٰ ويُدعىٰ بالكاظم ...». بحار الأَنوار ، 36 : 304 ـ 306/ح144. كفاية الأَثر : 8 ـ 9. (29) اعترف المُؤرِّخون والباحثون بأَنَّ السلطة العبَّاسيَّة أَوسع نطاقاً وأَقوىٰ اقتداراً وقوَّة من أَوج السلطة الأَمويَّة مساحة ورقعة وكيفيَّة وجبروتاً وآليَّاتاً. لكن : في موازاة ذلك قام المنافس الوحيد : نظام مدرسة أَهل البيت صلوات اللّٰـه عليهم ؛ فإِنَّ السلطة العباسيَّة لم يكن لها أَيّ منافس ورقيب يتناطح ويتدافع معها بقدر مدرسة أَهل البيت عليهم السلام. وهذه قضيَّة أُخرىٰ وظاهرة ثابتة باعتراف المؤرخين والباحثين ، ولم تنشأ من باب الصدفة. ثُمَّ إِنَّه بقدر اِتِّسَاع رقعة الدولة الإِسلاميَّة بعد استشهاد سيِّد الأَنبياء صلى الله عليه واله ، واِتِّسَاع رقعة النظام المُتسلِّط على المسلمين والبلدان الإِسلاميَّة اتَّسعت بموازاة ذلك قدرة نظام مدرسة أَهل البيت عليهم السلام. إِذَنْ : مدرسة أَهل البيت عليهم السلام هي الفصيل الوحيد المراقب ، والَّذي تتوجَّس منه السلطات خوفاً ورعباً ، والضَّاج لمضاجعها ، والمنافس الرقيب ، صاحب القدرة المتنامية في مدافعة سلطة السقيفة ، وسلطة بني أُميَّة ، وسلطة بني العبَّاس ، وصاحب القدرة والإِمكانيَّات والسيطرة على المسلمين وبلدانهم. وهذه الظاهرة لا زالت قائمة إِلى يومنا هذا منذُ بدايات أَيّام السقيفة. (30) ينبغي الإِلتفات : أَنَّ في شخصيَّة الإِمام الكاظم صلوات اللّٰـه عليه جهات ملحميَّة عديدة ، وبيانات أَهل البيت صلوات اللّٰـه عليهم المستفيضة والموارد التاريخيَّة المنقولة عند الفريقين تُعزِّز: أَن أَمواج أَحداث كانت معتركة في شخصيَّته. (31) إِطلاق صفة السَّفاهة على هارون العبَّاسيّ ليس من باب التحامل ، وإِنَّما لبيان واقع ؛ فإِنَّه لم يعش حقيقة العلم ، وإِنَّما عاش العنف وسفك الدماء ، وتجنيد العلم لبساط وبلاط جوره ، ولتثبيت وتوسيع قدرته ونفوذه التسلطي الدكتاتوري. بعد الإِلتفات : أَنَّ العلم إِنْ جُنِّدَ للتسلُّط والدكتاتوريَّة والقدرة الذاتيَّة والإِستبداد فتلك طامَّة كبرىٰ وخطر عظيم ، بخلاف تجنيد القدرة للعلم ففتح عظيم. وإِلى هذا تشير بيانات الوحي ، منها : الحديث المشهور عن سيِّد الأَنبياء صلى الله عليه واله : «إِذا رأيتم العلماء على أَبواب الملوك فبئس العلماء وبئس الملوك ، وإِذا رأيتم الملوك على أَبواب العلماء فنعم العلماء ونعم الملوك». ومن ثَمَّ كيف يُقال عن الدولة العبَّاسيَّة : أَنَّها دولة من العصور الذهبيَّة في الإسلام ، وعصرها عصر ذهبيّ في الإسلام وهي تخاف الفكر وتقمعه ، وتُقبع الإِمام الكاظم عليه السلام طوال أَربعة عشر سنة في قعر السجون ، فكفىٰ ضحكاً على ذقون البشر ؛ فإِنَّ تلك آثار هارون وقصوره الَّتي بناها لأَلف ليلة وليلة حمراء والجواري الَّتي يتكنَّس بها على الحدود العراقيَّة السوريَّة في منطقة الرقَّة لا زالت آثارها وآثار اللعب والدف والهوس والهلوسة والنزوات الخسيسة إلى الآن موجودة. (32) بحار الأَنوار ، 66 : 170/ح11. الخصال ، 2 : 8 .