/ الفَائِدَةُ : (22) /
13/04/2025
بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على محمد واله الطاهرين ، واللَّعنة الدَّائمة على أَعدائهم اجمعين. / القيمةُ الْعِلْمِيَّةُ والْمَعْرِفِيَّةُ للاِحْتِمَالِ / إِنَّ للتَّصَوُّرَات والِاحتمالات قيمةً عِلْمِيَّةً و مَعْرِفِيَّةً ، وملزمة للباحث في جملةِ العلوم ؛ لكون الحقيقة والواقعيَّة أَوْسَع نِطَاقاً وأُفْقاً بما لا يتناهىٰ من اِستِكْشَافِ الْقُدْرَةِ والطَّاقَةِ البشريَّةِ ، كما اِعترف بذلك أَصحاب العلوم البشريَّة كالفلاسفة ، فمعرفة البشر للحقائق ليست بِوُسِعِ ما للحقيقة من سَعَةٍ . ومنه يتَّضح : أَنَّ الفلاسفة والعرفاء ومَنْ جرىٰ علىٰ شاكلتهم من الَّذين يتجنَّبون بيانات معارف الوحي ليست لديهم حياديَّة في البحث الْعِلْمِيِّ والْمَعْرِفِيِّ ، ولا يطلبون الحقيقة بما هي هي، وأَغلقوا علىٰ أَنفسهم آفاق من التَّصوُّرات والِاحتمالات الْعِلْمِيَّة والْمَعْرِفِيَّة ؛ فإِنَّهم لا يتعاطون مع بيانات الوحي كمواد مُورِثة للتَّصوُّرات والِاحتمالات الْعِلْمِيَّةِ والْمَعْرِفِيَّةِ ومنبع لهما كما يتعاطون مع كلمات أَصحاب العلوم البشريَّة ـ كالفلاسفة والعرفاء ـ ، فما بالهم يكترثون بكلمات سائر البشر ولا يكترثون بكلمات الوحي وبكلمات رجالاته ؛ ومن باب ومنهج : «لا تنظر إِلى مَنْ قال، وانظر إِلى ما قال» ، فمع أَنَّهم يرفعون شعار : (حريَّة البحث والتنقيب الْعِلْمِيّ والْمَعْرِفِيّ الحُرّ، وعدم التَّقليد) ، لكنَّ تعاملهم مع بيانات الوحي ورجالاته علىٰ طرف نقيض من ذلك ، فَمَا عَدَا مِمَّا بَدَا ، فقد اقحموا الجانب التَّعصُّبي والنَّفسي في بحوثهم من دون مُبَرِّر، فما دامت هناك علوم ومعارف مُدَّعَاة في بيانات الوحي فعلىٰ الباحث عن الحقيقة الاِنفتاح عليها ، لا من باب التَّعَبُّد والتَّسليم المُبهَم، ولا بداعي التَّصديق والتَّسليم بالمُسلَّمَات والمشهورات المقبولة ، ولا بداعي الحبّ والخوف من العقوبة وطمع المثوبة ، بل من باب أَنَّها تولِّد تصوُّرات ودرجات من الْعِلْمِ والمعرفةِ ، وآفاق من الِاحتمالات والحِيْطَة والإِحاطة الْعِلْمِيَّةِ والْمَعْرِفِيَّةِ . وهذا المنهج من الفحص الواسع أَحَد معاني عنوان : (الدِّين) ، فإِنَّ لِلدِّين في منطق الوحي مراتب ودرجات من المعاني ؛ فما تَتطَلَّع إِليه البشريَّة من الوصول إِلى الحقائق بأَوْسَعِ قَدَرٍ مع صدق الِالتزام الْعِلْمِيّ والْمَعْرِفِيّ بهذا الشعار هو : (الدِّين) . وهذا ما تُشير إِليه بيانات الوحي ، منها : بیان خُطْبَة أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : «... أَوَّل الدِّين معرفتُهُ ، وكمال معرفته التَّصديق بِهِ ، وكمالُ التَّصديق به توحیدُهُ ، وكمالُ توحيده الإِخلاصُ له ، وكمالُ الإِخلاص له نفي الصَّفَات عنه ...»(1). فإِنَّ ظاهر كلامه الشَّريف (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ) : المُقابلة بين أَصل المعرفة والتَّصديق ، ومن ثَمَّ لا يُظنّ مغايرة منطق الدِّين لمنطق الْعِلْمِ والمعرفةِ ، بل العَلَاقَة بينهم كالعَلَاقَة بين الشيء ونفسه شريطة أَنْ لا يُقحم مع الْعِلْم والمعرفة سياسات وَأَهداف أُخرىٰ ، وتَعَصُّبَات ومصادرات وتَحَكُّمَات علىٰ الآخَرين ، فالْعِلْمُ والمعرفةُ لو صدقا لكانا هو الدِّين، ومن ثَمَّ العَلْمَانِيَّة ليست صيغة مبالغة للعِلْمِ بقدرِ ما هي شِعَارٌ يُوَظَّف لسياسات مُعيَّنة ؛ تُخَادَع بها فِطَر البشر، وإِلَّا لكانت ـ العَلْمَانِيَّة ـ نفس الدِّين الخالص . نعم الدِّين قد يُسيَّس أَيضاً تحت مآرب غير المعصوم. وبالجملة : أَنَّ أَحَد معاني الدِّين : الاِنفتاح علىٰ آفاق التَّصوُّر ، بَلْ التَّصوُّرات ، وهي درجة من درجات العِلْم والمعرفة والِاحتمال والحِيْطَة . وإِلى هذا تُشير بيانات الوحي ، منها : 1ـ بيان قوله جلَّ وتقدَّس : [إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ](2). فالرَّجاء يعني الِاحتمال ، فإِذا راعاه المخلوق فهو دين وديانة وتديُّن . 2ـ بیان قوله جلَّ قدسه : [بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ](3). وهذا حوارٌ وحِجَاجٌ منه عَزَّ وَجَلَّ مع البشر ، بَلْ جملة المخلوقات ، وهو دالٌّ علىٰ أَنَّ الفحص والبحث والتَّنْقِيب العِلْمِيّ نوع مُسَاءَلَة ومُدَايَنَة منه جَلَّ جَلَالُهُ للبشر، ولون هذه المُدَايَنَة ليس اِنْقِيَادٌ مُبهماً ، ولا طمع ولا خوف ، ولا صَرَامَة إِكراه ، وَلَا اِنْضِبَاط إِلجَاء ، بل هو اِستجابة للعِلْمِ التَّصَوُّري والِاحتمال . وعصارة القول : أَنَّ الأَخذ بالتَّصوُّرات والِاحتمالات الْعِلْمِيَّةِ والْمَعْرِفِيَّةِ أَذْعَن لها أَصحاب المعقول في عِلْمِ المنطق، بل وأَصحاب الأَبحاث الْعِلْمِيَّةِ والْمَعْرِفِيَّةِ الحديثةِ ؛ فإِنَّها قائمةٌ علىٰ الأَخذ بالتَّصوُّرات والِاحتمالات الْعِلْمِيَّةِ والْمَعْرِفِيَّةِ ، بل ويأخذون بالأَساطِيرِ ؛ لكونها تُحْدِث تصوُّراً واحتمالاً، لكن جحده الفلاسفة ومن جرىٰ علىٰ شاكلتهم في الجملة ؛ فيأخذون بها في مواردِ العلوم غير الدِّينيَّةِ ، ويهجروها في مواردِ العلوم الدِّينيةِ ، فَمَا عَدَا مِمَّا بَدَا ، نعم أَحَد أَسبابه : التَّرويج الإِعْلَامي ؛ فإِنَّه مُؤثِّرٌ ويجعل العقل لا يَحْكُم بميزانٍ وبواقعيَّةٍ موضوعيَّةٍ نزيهةٍ ، وهذا نحو تلاعب في الحُرِّيَّات ؛ فإِنَّه لماذا لا يُؤَخذ بالمقولةِ الدِّينيَّةِ بنزاهةٍ ومن دون تشويه كما يُؤَخَذ بالمقولةِ غير الدِّينيَّةِ ، أَوَ ليس العقلُ حَاكِماً بضرورة الإِنْصَاف ؛ وأَنَّ العدل في الفِكْرِ أَهمّ من العدل في السياسةِ والمال والحقوق البدنيَّةِ والقوانين المدنيَّةِ ؟!! فهل يُسَوِّغ العقل إِبْعَاد المقولة الدِّينيَّة بذريعةِ عدم تماميَّة حُجِّيَّتها في نفسها؟! أَوَ ليس المواد الدِّينيَّة ـ وعلىٰ أَقَلِّ الِاحتمالات ـ تُحْدِث تصوُّراً واِحتمالاً ؟ أَوَ ليس الِانفتاح العِلْمِيّ والمعرفيّ علىٰ الحقيقة بما لها من سِعَةٍ مسلكاً سياسيّاً وثقافيّاً ومعرفيّاً ، وأَصْلاً فِكْرِيّاً وعِلْمِيّاً وعقليّاً لدىٰ أَصحاب المعقول كالفلاسفة ؟! وعليه : فإِذا تشرنق الباحث والمُسْتَنْبِط بكلمات البشر وهجر بيانات الوحي وكلمات رجالاته ـ المُورِثة علىٰ أَقلِّ الِاحتمالات للتَّصوُّرات والِاحتمالات ـ فقد سلك منهجاً للعقل منه نَبْوَة ؛ لأَنَّه مع ورود الِاحتمال يبطل الِاستدلال . وصلى الله على محمد واله الاطهار . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) نهج البلاغة، الخطبة الأُولىٰ: 45. (2) يونس: 7 ـ 8. (3) يونس: 39