/ الفَائِدَةُ : (155) /

08/05/2025



بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على محمد واله الطاهرين ، واللَّعنة الدَّائمة على أَعدائهم اجمعين. / وجوب تبديل خارطة الجهاد الْاِبْتِدَائِيّ في أَبواب فقه الفروع / / مواجهة الإِرهاب وردعه أَحد مصاديق الجهاد الْاِبْتِدَائِيّ / إِنَّ مَنْ يُراجع بيانات الوحي يجدها تذكر : أَنَّ فلسفة القوَّة وتناميها(1) هي لردع المعتدي ، فبيان قوله تعالى : [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ](2) (3) شامل بإِطلاقه لردع الإِرهاب والمُعتدي ، وَمَنْ يدعو إِلى خلاف ذلك فهو فاجر وخائن وغادر بالأُمَّة . وهذا ليس معناه الطغيان والتَّعَدِّي على الآخرين ، بل إِحداث توازن قوى ورعب ، وهو ما عليه منطق العقل والعقلاء ، بل ومنظومة الحيوانات النابعة من فطرتها الإلهيَّة ؛ فإِنَّها جارية علىٰ ذلك(4) . وهذا النحو أَحد أَقسام الدفاع الَّتي لم يذكرها فقهاؤنا «أَعلىٰ الله مقاماتهم» في كُتُبهم الفقهيَّة ورسائلهم العمليَّة ـ وكان ذكره أَمراً ضروريّاً ـ ، والمذكور فيها : أَقسامٌ ضعيفةٌ ودانيةٌ وناقصةٌ وهابطةٌ جِدّاً ، ومن باب آخِر الدَّواء الكيّ ، بل لازمها نقض غرض الشَّارع المُقَدَّس والعقل والعقلاء من تقنينه ، بل مُخالف لصريح منطق بيانات الوحي والأَدلَّة العقليَّة والعقلائيَّة ، بل ولمنطق أَحكام العقل الوضعيَّة لدى البشر ، ومِنْ ثَمَّ ورد بيان أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : «... مَا غزي قوم في عقر دارهم إِلَّا ذَلُّوا...»(5). وعليه : ينبغي تغيير خارطة الجهاد الدفاعي في أَبواب الفقه . وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ الأَطْهَارِ . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الثَّابت في العلوم السياسيَّة والأَكاديميَّة ؛ وفي العلوم الإِسْتَرَاتِيجِيَّة والعلوم الإِنسانيَّة وغيرها : أَنَّ البشريَّة إِلى الآن لم تكتشف ـ تنظيراً ـ مصدر القوَّة والسَّلطنة والسَّيطرة لديها ، فهل هو : المال والقوَّة الِاقتصاديَّة والتجاريَّة ، أَو القوَّة العسكريَّة والأَمنيَّة ، أَو الأَعوان والأَتباع والشَّعبيَّة ، أَو الوعي والرَّأْيُ العام ؟ والحقُّ : أَنَّ جميع هذه الأُمور وغيرها وإِنْ كانت أَسباباً وعِلَلاً ومصادر طبيعيَّة مادِّيَّة للقوَّة والسَّيطرة ، لكنَّه بالدِّقَّة : الأَسباب والعِلَل والمصادر الحقيقيَّة للقوَّة والسَّيطرة والهيمنة ؛ وتوازن وتناسب هذه الأَسباب والعِلَل أُمورٌ غيبيَّةٌ ، رأس هرم هذه الأُمور الغيبيَّة طبقات حقائق أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الصَّاعدة . وهذا ما تُشير إِليه بيانات الوحي ، منها : /طبقات حقائق أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عِلَلٌ فاعليَّةٌ/ أَوَّلاً : بيان أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : «أَنَا دحوتُ أَرضها ، وَأَنْشأتُ جبالها ، وَفَجَّرت عيونها ، وشققتُ أَنهارها ، وغرستُ أَشجارها ، وَأَطعمتُ ثمارها ، وَأَنْشَأَتُ سحابها ، وَأَسمعتُ رعدها ، ونوَّرتُ برقها ، وَأَضحيتُ شمسها ، وَأَطلعتُ قمرها ، وَأَنزلتُ قطرها ، ونصبتُ نجومها ، وَأَنا البحر القمقام الزَّاخر ، وسكَّنتُ أَطوادها ، وَأَنشأَتُ جواري الفلكَ فيها ، وَأَشرقتُ شَمسها ، وَأَنا جنب اللّٰـه وكلمته ، وقلب اللّٰـه وبابه الَّذي يؤتىٰ منه ، ادخلوا الباب سُجَّداً أَغفر لكم خطاياكم وَأَزيد المُحسنين ، وبي وعلىٰ يديّ تقوم السَّاعة ، وَفيَّ يرتاب المبطلون ، وَأَنا الأَوَّل والآخر ، والظَّاهر والباطن ، وبكلِّ شيء عليم ». بحار الأَنوار، 39: 348/ح20. مناقب آل أَبي طالب، 1: 512ـ 514. ثانياً : بيانه صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَيضاً : «... وَأَنا الأَوَّل وأَنا الآخر ، وَأَنا الباطن وَأَنا الظَّاهر ، وَأَنا بكلِّ شيءٍ عليم ، وَأَنا عَين اللّٰـه ، وَأَنا جنب اللّٰـه ، وَأَنا أَمين اللّٰـه علىٰ المرسلين ... وَأَنا أُحيي ، وَأَنا أُميت ، وَأَنا حي لا أَموت ». بحار الأَنوار، 39: 347. ثالثاً : بيانه صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَيضاً : «... أَنَا الَّذي حملتُ نوحاً في السفينة بأَمر رَبِّي ، وَأَنا الَّذي أَخرجتُ يونس من بطن الحوت بإِذنِ رَبِّي ، وَأَنا الَّذي جاوزتُ بموسىٰ بن عمران البحر بِأَمر رَبِّي ، وَأَنا الَّذي أَخرجتُ إِبراهيم من النَّار بإِذن رَبِّي ، وَأَنا الَّذي أَجريتُ أَنهارها ، وَفَجَّرْتُ عيونها ، وغرستُ أَشجارها بإِذنِ رَبِّي ، وَأَنا عذاب يوم الظِّلَّة ، وَأَنا المنادي من مكانٍ قريبٍ قد سمعه الثقلان : الجنّ والإِنس ، وفهمه قوم ، إِنِّي لأُسمع كُلّ قومٍ [في نسخةٍ : (كُلّ يوم)] الجَبَّارين والمنافقين بلغاتهم ، وَأَنا الخضر عَالِم موسىٰ ، وَأَنا مُعَلِّم سليمان بن داود ، وَأَنا ذو القرنين ، وَأَنا قُدرة اللّٰـه عزَّ وجلّ ... إِنَّ مَيِّتَنا لم يَمُت ، وغائبنا لم يَغِب ، وإِنَّ قتلانا لَنْ يُقتلوا ... لِأَنَّا آيات اللّٰـه ودلائله ، وحُجَج اللّٰـه وخلفاؤه وأُمناؤه وَأَئِمَّتَه ، ووجه اللّٰـه وعين اللّٰـه ولسان اللّٰـه ، بِنَا يُعَذِّبُ اللّٰـهُ عباده ، وبِنَا يُثيب ... وَلَو قال قائل : لِمَ وكيف وفيم ؟ لكفر وَأَشرك ؛ لأَنَّه لا يُسأل عمَّا يفعل وهم يُسألون ... أَنَا أُحيي وأُميت بإِذن ربِّي ...». بحار الأَنوار، 26: 5/ح1. رابعاً : بيان سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ، مخاطباً أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : «يا عَلِيُّ، كُنتَ مع الأَنبياء سِرّاً ، ومعي جهراً». معارج العُلىٰ (مخطوط). خامساً : بيان أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : «كُنْتُ مع الأَنبياء باطناً ، ومع رسول اللّٰـه ظاهراً». مصباح الهداية: 142. سادساً : بيان الإِمام الصَّادق صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ مُخاطباً أَبا حنيفة ، عن كنز الفوائد للكراجكي ، قال : «ذُكر : أَنَّ أَبا حنيفة أَكَلَ طعاماً مع الإِمام الصَّادق جعفر بن محمَّد عليهما السلام ؛ فلَمَّا رفع عليه السلام يده من أَكله قال : الحمد للّٰـه ربِّ العالمين ، اللَّهُمَّ إِنَّ هذا مِنكَ ومن رسولكَ . فقال أَبو حنيفة : يا أَبا عبداللّٰـه ، أَجعلتَ مع اللّٰـه شريكاً ؟ فقال له : ويلكَ ، إِنَّ اللّٰـه تعالىٰ يقول في كتابه : [وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ] [التوبة: 74]، ويقول في موضع آخر : [وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُه] [التوبة: 59] . فقال أَبو حنيفة : واللّٰـه لكأَنِّي ما قرأتهما قَطُّ من كتاب اللّٰـه ، ولا سمعتهما إِلَّا في هذا الوقت . فقال أَبو عبداللّٰـه عليه السلام : بَلَىٰ ، قَدْ قرأتهما وسمعتهما ، ولكنَّ اللّٰـه تعالىٰ أَنزل فيكَ وفي أَشباهكَ : [أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] [مُحمَّد : 24] ، وقال : [كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] [المطففين : 14] » . بحار الأنوار، 47: 240/ح25 . كنز الفوائد للكراجكي : 196 . سابعاً : بيان أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : «... وَلَولَا ما نَهَىٰ اللّٰـهُ عنه من تزكية المرء نفسه لذكر ذاكرٌ فَضَائلَ جَمَّةً تعرِفُها قلوبُ المؤمنين ، وَلَا تَمُجُّها آذانُ السَّامعينَ ، فَدَعْ عنكَ مَنْ مالَت به الرَّمِيَّةُ ؛ فإنَّا صَنَائعُ ربُّنا ، والنَّاسُ بَعْدُ صَنَائِعُ لَنَا ... » . بحار الأنوار، 33: 57ـ 60/ح398. نهج البلاغة/ باب: المختار من كُتُب أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ/28ـ من كتاب له صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِلى معاوية جواباً : 411ـ 415. ثامناً : بيان النَّاحية المُقدَّسة : «... ونحن صنائعُ ربُّنا ، والخلق بعد صنائعنا ...». بحار الأنوار، 53: 178ـ 180/ح9. غيبة الشَّيخ: 184ـ 185. الاحتجاج: 253. ودلالتها قد اِتَّضحت ؛ فإِنَّه بعدما كانت طبقات حقائق أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الصَّاعدة : وسائط الفيض الرُّبُوبِيّ ، والسَّبب والباب والحجاب والرباط الْإِلَهِيّ الأَدنىٰ بين الخالق (جلَّ وتقدَّس) وجملة العوالم وسائر المخلوقات كانت عللاً فاعليَّة ؛ تفيض الوجود على ما تعلَّقَت به المشيئة والإِرادة الْإِلَهِيَّة ، فخُلقت السَّماوات والأَرضين ومَنْ فيهنَّ وما بينهنَّ بأَيدي وقوىٰ أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الصَّاعدة . إِذَنْ : طبقات حقائق أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الصَّاعدة إِضافة لكونها عللاً غائيَّة هي علل فاعليَّة ؛ إِذْ الباري (تقدَّست أَسماؤه) يتنزَّه عن مباشرة الأَشياء بنفسه ، بل مُنزَّه عنها ، وإِنَّما هي من شأن المخلوقات المُكرَّمة ؛ لاحتياج الخلق والإِماتة والإِحياء والإِيحاء ، وسائر الأَشياء والمفاعيل إِلى مُحاذاة وقرب وحركة ، وملابسة وملامسة ومباشرة ومعالجة ، واستنزال وزوال وما شاكلها من أَفاعيل وصفات وشؤون المخلوقات ، والباري (عظمت آلاؤه) مُنَزَّه عن جميع ذلك بالضَّرورة الوحيانيَّة والعقليَّة . فانظر : بيانات الوحي ، منها : 1ـ بيان جواب الإِمام الصَّادق صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ على سؤال الزنديق : «... فيُعَانِي الأَشْيَاءَ بنفسه ؟ قال أَبوعبداللّٰـه عليه السلام : هُوَ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يُعاني الأَشياء بمباشرةٍ ومُعَالَجةٍ ؛ لأَنَّ ذلك صِفَةُ المَخْلُوقِ الَّذي لا تجيءُ الأَشياءُ له إِلَّا بالمباشرةِ والمُعَالجَةِ ، وهُوَ مُتَعَالٍ نافِذُ الإِرَادَةِ والمَشيئَةِ ، فَعَّالٌ لِـمَا يَشاءُ » . أُصول الكافي، 1: كتاب التوحيد/24ـ باب إِطلاق القول بأَنَّه شيء: 95ـ61/ح6. 2ـ بيانه صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَيضاً : «... يا ظاهراً بلا مشافهة ، يا باطناً بلا ملامسة ... يا أَوَّلاً بغير غاية ، يا آخراً بغير نهاية ، يا قائماً بغير انتصاب ، يا عَالِماً بلا اكتساب ...» . بحار الأنوار، 83: 314ـ 315/ح67. 3ـ بيان الإِمام الكاظم صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : «... فَمَنْ ظَنَّ باللّٰـهِ الظنون فقد هَلَكَ وَأَهلكَ ، فاحذروا في صفاته من أَنْ تقفوا له على حَدٍّ من نقصٍ أَو زيادةٍ ، أَو تحريكٍ أَو تَحَرُّكٍ ، أَو زوالٍ أَو استنزالٍ ، أَو نهوضٍ أَو قعودٍ ، فإنَّ اللّٰـه عَزَّ وَجَلَّ عن صفة الواصفين ، ونعت النَّاعتين ، وتوَهُّم المُتَوهِّمين » . بحار الأنوار، 3: 311ـ312/ح5. الكافي، 1: 125. 4ـ بيان الإِمام الرَّضا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : «... عظم ربِّي وجلَّ أَنْ يكون في صفة المخلوقين ... » . بحار الأنوار، 4: 40/ح18. ومن ثَمَّ اقتضت الضرورة لمخلوقات مُكرَّمة تفعل أَفاعيل الذَّات الْإِلَهِيَّة الأَزليَّة المُقدَّسة ، وتقوم مقامه (تقدَّس ذكره) ، وهي على طبقات ، طبقاتها الصَّاعدة : (حقائق أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ) ، وطبقاتها النَّازلة : (الملائكة المقرَّبين وأَجنادهم) ، فإِسرافيل عليه السلام ـ مثلاً ـ يحيي ، لكنَّ إِحياء طبقات حقيقة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَرقىٰ وأَعلىٰ ، وأَشَفُّ وأَلطف ، وأَعظم قوَّة وسلطنة وهيمنة من دون قياس . وعزرائيل عليه السلام مميت ، لكنَّ إِماتة طبقات حقيقة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَرقىٰ وأَعلىٰ ، وأَشَفُّ وأَلطف ، وأَعظم قوَّة وسلطنة وهيمنة من دون قياس ، وعلى هذا قس ما يقوم به سائر الملائكة عليهم السلام ؛ كـ : (ميكائيل عليه السلام الموكَّل في إِيصال الأَرزاق إِلى المخلوقات) ، و(جبرئيل عليه السلام الموكَّل في الإِيحاء النَّازل) ، و(رضوان عليه السلام المُوكَّل في الجنان ونعيمها) ، و(مالك عليه السلام المُوكَّل في جهنَّم وجحيمها وعذابها) ؛ فإِنَّ الطَّبقات الصَّاعدة لهذه الأَفاعيل صادرة من طبقات حقيقة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ وسائر طبقات حقائق سائر أَهْل الْبَيْتِ بعد طبقات حقيقة سَيِّد الْأَنْبِيَاء ( صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ) . ومن ثَمَّ يتَّضح : الجَمُّ الغفير الهائل ، الخطير والمهول جِدّاً من بيانات الوحي الْمَعْرِفِيَّة والْمَعْنَوِيَّة والْعَقَلِيَّة الأُخرىٰ ـ الآتي (إِنْ شاء اللّٰـه تعالىٰ) ذِكْر ما يُمثِّل بعض طوائفها ـ الَّتي حام حومها أَتباع مَدْرَسَة أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، لكنَّهم لم يطوفوا طورها ؛ لعدم تحمُّلهم ما ورد فيها من حقائق وحيانيَّة و مَعْرِفِيَّة و مَعْنَوِيَّة وعَقَلِيَّة ، ومقامات ومراتب وفضائل وكمالات جليلة وعظيمة وخطيرة جِدّاً لأَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، صادمة ومذهلة ومرعبة ، وصاكَّة لأَسماع العوالم والمخلوقات غير المتناهية ، وفوق طاقة التَّصوُّر والتَّعَقُّل ، فعمدوا إِلى إِسقاط حُجِّيَّتها سنداً من خلال رمي رواتها ـ مع أَنَّهم من أَعمدة وأَساطين أَصحاب الأَئمَّة صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ـ بـ : الغُلُوِّ ، والتَّخليط ، ونقل المناكير وما شاكلها ، أَو إِسقاط حُجِّيَّة متونها من خلال لَيّ أَعناق دلالاتها ، وتَشَبَّثوا له بأُمور تَشَبُّث الغريق بلحيته ، أَو التَّوقُّف فيها ، وإِحالة أَمرها إِلى أَهلها ( صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ) على أَحسن الأَحوال . لكنَّه : بعد أَنْ أَستسمنت ذا ورم ـ حصلت هذه الطفرة الْعَمَلِيَّة والْعَقَائِدِيَّة والْمَعْرِفِيَّة والْمَعْنَوِيَّة والْعَقَلِيَّة الَّتي نعيش الآن أَيَّامها المباركة ، المُنتشِلة من الظلمات والغواشي ، والمُقرِّبة إِلى عوالم النُّور والحبور ، والبهاء والسرور ، المُخرجة لِمَنْ له عينين من الحُجُب الظلمانيَّة ـ بزغت هذه البيانات وغيرها ماثلة لكلِّ عينٍ ، مالئة لكُلِّ سمعٍ ، وتجلَّت بحور خضم زاخرة ، يعبُّ عبابها ، وتصطخب أَمواجها ، فيها درر زاهرة ، وجواهر ناصعة ، ونور ساطع في عقول المخلوقات كالشَّمس الضاحية ، وأَدلَّة وحيانيَّة قطعيَّة الصدور والدلالة بالقطع العقلي ، بل والوحياني ، ودلائل ظاهرة قاطعة ، وبراهين واضحة باهرة ، وحُجَجٌ بالغة ساطعة علىٰ شيءٍ جسيم ، يفوح منها مدىٰ عظمة أَهْل الْبَيْتِ الأَطهار صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، فكن ذا عينين تفز بالحسنيين ، فقد أَلزمتكَ وأَفحمتكَ الحُجَّة ، بعد أَنْ أستفحل الدَّليل وانسدَّ طريق الإِنكار بما لا يخفىٰ أَو يُستر ، فلا يبقىٰ مجال لموقف الشَّكِّ أَو ميدانٍ لمُشكِّك ، فاصغ إِليها سمعكَ ، وذلِّل لها فهمكَ ، واشغل لها قلبكَ ؛ لتعرف من أَين تُؤْكل الكتف ؛ لتلتقط درر الحقيقة من بحور بياناتها ، وهي وإِنْ بَعُدَ الباحث والمُحقِّق والعارف في الغور والغوص فيها ، لكنَّه لا ينال حقيقة بحورها المُوَّاجة ، ولا يُدرِك قُعُوْرَها الفيَّاضة ، ومن ثَمَّ تصبح آراء أُولئك وتأويلاتهم كمثل غيم علا فاستَعلىٰ ، ثُمَّ استغلظ فاستوىٰ ، ثُمَّ تمزَّقَ فانجلا رويداً ، ويتَّضح أَنَّها كالشَّمس بلا حجاب وستار على غير أَصلٍ فنِّيٍّ ، وقاعدةٍ صناعيةٍ ، فيكون منهج خُدْعَة مُخالف لِـمَا قامت عليه بيانات الوحي ، بل ظاهرة التَّكليف ، بيِّنة التَّوليد ، تخطب على نفسها أَنَّها فخفخة قول مِمَّنْ داخله الشَّكّ واستولىٰ عليه الرَّيب ، مُحجِّرة للعقول ومميتة للحقائق ، وأَباطيل خُيِّلت لهم وخُلطت عليهم ، ومفتريات اختلقوها من تلقاء أَنفسهم . وهذا ليس سبّاً وحطّاً لمقام أُولئكَ ، وإِنَّما بيان حقيقة . والسَّلام . /خارطة جملة عوالم الخلقة برسم وتخطيط أَهْل الْبَيْتِ عليهم السلام/ ومِنْ كُلِّ ما تقدَّم يتَّضح : أَنَّ المستفاد من بيانات الوحي : أَنَّ خارطة مسار جملة عَالَم الدُّنيا برسم وتخطيط أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، بل وخرائط مسارات كافَّة العوالم وجميع مخلوقاتها غير المتناهية ـ كـ : عَالَم البرزخ ، وعَالَم الرَّجعة ، وعَالَم القيامة ، وعَالَم الآخرة الأَبديَّة ، وعوالم ما بعدها ، بل وعوالم ما قبل هذه النشأة الأَرضيَّة ـ لم تكن إِلَّا بتخطيطهم ( صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ) وهندستهم وتنفيذهم . فانظر : بيانات الوحي ، منها : 1ـ بيان أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ـ المُتقدِّم ـ : «... أَنا دحوتُ أَرضها ، وأَنشأتُ جبالها ، وفجَّرتُ عيونها ، وشققتُ أَنهارها ، وغرستُ أَشجارها ، وأَطعمتُ ثمارها ، وأَنشأتُ سحابها ، وَأَسمعتُ رعدها ، ونوَّرتُ برقها ، وأَضحيتُ شمسها ، وأَطلعتُ قمرها ، وأَنزلتُ قطرها ، ونصبتُ نجومها ... وسكنتُ أَطوادها ، وأَنشأتُ جواري الفلك فيها ، وأَشرقتُ شمسها ... ادخلوا الباب سجّداً أغفر لكم خطاياكم وأزيد المحسنين ، بي وعلى يديّ تقوم السَّاعة... » . بحار الأَنوار، 39: 348. 2ـ بيانه صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَيضاً : « ... أَنَا مُنزل الملائكة منازلها ... أَنا المُنادي لهم : أَلستُ بربِّكم ؛ بأَمر قيُّوم لم يزل ... أَنا صاحب الهبات بعد الهبات ولو أَخبرتكم لكفرتم ... أَنا منشئ الأَنام ... أَنا صاحب النجوم ، أَنا مُدبِّرها بأَمر ربّي ... أَنا المُعطِي ، أَنا المُبذِل ، أَنا القابض يدي على القبض ... أَنا صاحب القطر والمطر ، أَنا صاحب الزلازل والخسوف ... أَنا صاحب الغيث بعد القنوط ... » . مشارق أَنوار اليقين في أَسرار أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام ، الخطبة الإِفتخاريَّة : 165ـ 166. 3ـ بيان خطبته صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَيضاً : « أَنَا عندي مفاتيح الغيب ... أَنا أَقمتُ السَّماوات بأَمر ربِّي ... أَنا أَمر الحي الَّذي لا يموت ، أَنا ولي الحقّ على سائر الخلق ... أَنا المفوَّض إِلَيَّ أَمر الخلائق ، أَنَا خليفة الإِلٰه الخالق ... أَنا أرسيتُ الجبال الشَّامخات ، وفجَّرتُ العيون الجاريات ... أَنَا مُقدِّر الأَقوات ، أَنا ناشر الأَموات ، أَنا منزل القطر ، أَنَا مُنَوِّر الشَّمس والقمر والنجوم ، أَنَا قيِّم القيامة ... أَنَا محصي الخلائق وإِنْ كثروا ... » . مشارق أَنوار اليقين: 269ـ 270. 4ـ بيانه صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَيضاً ، الوارد في حقِّ أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : « ... هذا كُلّه لآل محمَّد لا يُشاركهم فيه مُشارك ... خلقهم اللّٰـه من نور عظمته ، وولَّاهم أَمر مملكته ... » . بحار الأَنوار، 25: 169ـ174/ح38. 5ـ بيانه صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَيضاً ، عن سلمان (رضوان اللَّـه عليه) ، قال : « ... وإنَّ اللَّـه عَزَّ وَجَلَّ جعل أَمر الدُّنيا إِلَيّ ... قال سلمان : ... ثُمَّ إِنَّ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام أَمر الريح فسارت بنا إلى جبل قاف فانتهيت [في المصدر : (فانتيهنا)] إِليه ، وإِذا هو من زمرِّدة خضراء وعليها مَلَك على صورة النسر ، فلَمَّا نظر إلى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام قال المَلَكُ : السَّلَامُ عَلَيْكَ يا وصيّ رسول اللَّـه وخليفته ، أَتأذن لي في الكلام ؟ فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلام وقال له : إِنْ شئتَ تكلَّم ، وإِنْ شئتَ أَخبرتُكَ عمَّا تسألني عنه . فقال المَلَكُ : بل تقول أنت يا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ . قال : تُريد أَنْ آذن لَكَ أَنْ تزور الخضر عليه السلام ، قال : نعم ، فقال عليه السلام : قد أذنتُ لَكَ ... فقال سلمان : يا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ ، رأيتُ المَلَك ما زار الخضر إِلَّا حين أَخذ إذنكَ . فقال عليه السلام : والَّذي رفع السماء بغير عمدٍ ، لو أَنَّ أَحدهم رام أَنْ يزول من مكانه بقدر نفسٍ واحدٍ لَـمَا زال حتَّىٰ آذن له ، وكذلك يصير حال ولدي الحسن ، وبعده الحسين وتسعة من ولد الحسين ... والَّذي فلق الحبَّة وبرأ النسمة إِنِّي لأَملك من ملكوت السَّماوات والأَرض ما لو علمتم ببعضه لما احتمله جنانكم ... » . بحار الأَنوار، 27: 33ـ40/ح5. المحتضر: 71ـ 76. 6ـ بيان الإِمام الباقر صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : « إِنَّ اللَّـه لم يزل فرداً مُتَفَرِّداً في الوحدانيَّة ، ثُمَّ خلق محمَّداً وعليّاً وفاطمة عليهم السلام ... وفوَّض أَمر الأَشياء إِليهم في الحُكم والتصرُّف والإِرشاد ، والأَمر والنهي في الخلق ؛ لأَنَّهم الولاة فلهم الأَمر والولاية والهداية ، فهم أَبوابه ونوَّابه وحُجَّابه ، يُحلِّلون ما شاء ، ويُحرِّمون ما شاء ، ولا يفعلون إِلَّا ما شاء ، عباد مُكرمون ، لا يسبقونه بالقول ، وهم بأمره يعملون... » . بحار الأَنوار، 25: 339/ح21. 7ـ بيان الإِمام الصَّادق صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، عن المفضَّل بن عمر ، قال : « ... فقلتُ له : يا بن رسول اللَّـه ، فعَلِيّ بن أَبي طالب عليه السلام يُدخل مُحبّه الجنَّة ومبغضه النَّار أَو رضوان ومالك ؟ فقال : يا مفضَّل ... فَعَلِيّ بن أَبي طالب عليه السلام إِذاً قسيم الجنَّة والنَّار عن رسول اللَّـه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ، ورضوان ومالك صادران عن أَمره بأمر اللَّـه (تبارك وتعالىٰ) ، يا مفضَّل ، خُذ هذا ؛ فإِنَّه من مخزون العلم ومكنونه ، لا تخرجه إِلَّا إِلى أَهله » . بحار الأَنوار، 39: 194ـ 196/ح5. علل الشرائع: 65. 8ـ إِطلاق بيانه صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، عن إِسماعيل بن عبد العزيز ، قال : «قال لي جعفر بن مُحمَّد عليه السلام : إِنَّ رسول اللّٰـه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كان يُفوَّض إِليه ... وإنَّ اللّٰـه فوَّض إِلى مُحمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ نبيّه ؛ فقال : [مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] [الحشر: 7] ، فقال رَجُلٌ : إِنَّما كان رسول اللّٰـه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مفوَّضاً إِليه في الزَّرع والضَّرع ، فلوّىٰ جعفر عليه السلام عن عنقه مُغضباً ، فقال : في كُلِّ شيءٍ ، واللّٰـه في كُلِّ شيءٍ » . بحار الأَنوار، 17: 9/ح16. بصائر الدرجات: 111ـ112. 9ـ بيان زيارتهم صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الجامعة : « ...السَّلام عليكم يا أَهل بيت النُّبوَّة، وموضع الرسالة ... وقادة الأُمم ... وساسة العباد ... اِصْطَفَاكُم بعلمه ... وفوَّض إِليكم الأُمور، وجعل لكم التَّدبير، وعرَّفكم الأَسباب ... وأَعطاكم المقاليد، وسخَّر لكم ما خلق ... إِياب الخلق إِليكم ، وحسابهم عليكم ، وفصل الخطاب عندكم ... وأَمره إِليكم ... لم تزالوا بعين اللَّـه وعنده ، وفي ملكوته تأمرون ، وله تخلفون ، وإِيَّاه تُسبِّحون ، وبعرشه محدقون ، وبه حافُّون حتَّىٰ مرَّ بكُم علينا ، فجعلكم في بيوتٍ أَذن اللَّـه أَنْ تُرفع ويُذكر فيها اسمه ... » . بحار الأَنوار، 99/الزيارة الثالثة: 146ـ 159. 10ـ بيان زيارة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : « ...السَّلام عليك يا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عَلِيّ بن أَبي طالب ... السَّلام عليكَ يا ... صاحب الدُّنيا ... السَّلام عليكَ يا حافظ سرّ اللّٰـه ، وممضي حكم اللّٰـه ، ومجلي إِرادة اللّٰـه ، وموضع مشيَّة اللّٰـه ... وولي الملك الدَّيَّان ... السَّلام عليكَ يا عماد الجبَّار ... السَّلام عليكَ يا مشهوراً في السَّماوات العليا ، ومعروفاً في الأَرضين السَّابعة السفلىٰ ... السَّلام عليكَ أَيُّها النَّازل من عليِّين ، والعَالِم بما في أَسفل السَّافلين ... اجتباكَ اللّٰـه لقدرته ، فجعلكَ عصا عزِّه ، وتابوت حكمته ... » . بحار الأَنوار، 97: 347ـ 352. المزار الكبير: 97ـ 101. ودلالة الجميع واضحة، ولا غبار عليها. ومن ثَمَّ لا تكون بياناتهم الْمَعْرِفِيَّة وسِيَرُهم وأَفعالهم صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إِسْتْرَاتِيجِيَّة حضارة فحسب ، بل وإِسْتْرَاتِيجِيَّة عوالم ومخلوقات غير متناهية لا يعيها سائر البشر ، بل ولا سائر الأَنبياء والملائكة المُقرَّبين عليهم السلام . ومن ثَمَّ فلسفة بياناتهم صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وسِيَرِهم وأَفعالهم ليست محدودة بأَمد زمانيّ دنيويّ ، بل ولا بعَالَم الدُّنيا برمَّته ؛ فإِنَّ ساحة القدس الْإِلَهِيَّة وَظَّفَتْهُم لرسم خارطة مسار جملة العوالم وطُرّ المخلوقات غير المتناهية . ومنه يتَّضح : مدىٰ وضوح جملة الخريطة التَّكوينيَّة وإِسْتْرَاتِيجِيَّة العوالم ومخلوقاتها لدىٰ أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ . إِذَنْ : المفتاح والبوابة والنَّافذة والماسكة بالقدرة والقوَّة والسَّلْطَنَة والهيمنة طبقات حقائق أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الصَّاعدة ، وإِلَّا ـ أَي: لو كانت الأَسباب الطبيعيَّة والمادِّيَّة هي العِلَل الحقيقيَّة للقوَّة والسَّيطرة والهيمنة ـ لتمسَّكت بها الدُّول لاسيما العظمىٰ والحكومات ؛ للمحافظة علىٰ قوَّتها وقدرتها وسَلْطَنَتها وهيمنتها ، بل واقع الحال يشهد : أَنَّ لكُلِّ قوَّةٍ وقدرةٍ وسَلطنةٍ وهيمنةٍ ماديَّةٍ أَجَلاً وأَمَداً مُعيَّناً تنتهي بعده تلقائيّاً ؛ وَمَنْ يُراجع تاريخ البشريَّة يجد صدق ذلك واضحاً ، وخذ علىٰ ذلك الأَمثلة التَّالية الحادثة في العصر الحديث : أَحدها : ما حصل لبريطانية ؛ فإِنَّها كانت هي الدَّولَة العظمىٰ ، ولها مُستعمرات في شرق الأَرض وغربها ، لكن سرعان مازال ملكها ، وأَصبحت اليوم تابعة للولايات المًتَّحدة الأَمريكيَّة ، وبالكاد تحكم جزيرتها . ثانيها : ما حصل للاِتِّحاد السوفيتي ؛ فإِنَّه زال وتفكك بين ليلةٍ وضُحَاهَا ، بعدما كان ثاني دولة عظمىٰ . ثالثها : ما يحصل الآن للولايات الُمَّتحدة الأَمريكيَّة ؛ فإِنَّها في حالة أُفول واضح وظاهر لأَصحاب العلوم الِإِسْتْرَاتِيجِيَّة ؛ بعدما كانت هي الدولة العظمىٰ ، والقطب الأَوحد في العَالَم . (2) الأَنفال: 60. (3) ينبغي الِالتفات : أَنَّ هذا البرهان والبيان الوحيانيّ الشريف يصبُّ في ولاية أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ومن شُعَبها ، فمع أَنَّ بُعْدَهُ شرعيٌّ ومن فروع الدِّين ، لكنَّه اِنعكاس لولايتهم ( صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ) وصيغة لها ؛ ومن ثَمَّ ليس له بداية ولا نهاية ، ولا زمان ولا مكان، ولا حدّ ولا درجة ، كحال ولايتهم ( صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ) . وهذا هو أَحد معاني التقيَّة ؛ فإِنَّ أَحَد معانيها : إِعداد واِستعداد ووقاية . وهذا بلا ريب ليس حُكْماً ثانويّاً ، بل حُكْمٌ أَوَّلِيٌّ ، ليس له بداية ولا نهاية ، ويستمر ، ومطلوب وفي زيادة ودوام السَّعي والتبديل ولو بآليات هَادِئَة ، أَو قُل بآليَّات خفيَّة . إِذَنْ : هذا المعنىٰ من التقيَّة لا يقتضي السُّكون والضَّعف والاِسْتِكَانة وعدم الحركة ، وإِنَّما يقتضي : عدم الوهن وعدم الضَّعف وعدم الاِسْتِكَانة ، ويَصُبُّ في بيان قوله تعالىٰ : [إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ] [الرعد: 11] . ويَصُبُّ أَيضاً في المشروع الْإِلَهِيّ المُقرَّر لمشروع الإِمام المهدي عجل الله تعالى فرجه ، ولمشروع أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ؛ فإِنَّه مشروعٌ ضخمٌ ومهول جِدّاً لانهاية ولا حَدَّ له ، ومن ثَمَّ جُعِلَ الإِعداد له لانهاية ولا حدَّ ولا غاية ولا منتهىٰ له . (4) يجدر صرف النظر في المقام إِلى القضايا التَّالية : القضيَّة الأُولىٰ : /صفحات عَالَم التَّكوين تحكي كُلَّ شاردةٍ وواردةٍ من عَالَم التَّشريع وغيره/ /قراءة صفحات عَالَم التَّكوين أَحَد قِرَاءات القرآن الكريم/ إِنَّ كُلَّ ما يرومه المخلوق من جوابٍ يجده حاضراً لديه من الباري (جلَّ ثناؤه) في أَعماق عَالَم التَّكوين ؛ ففيه صفحات وفصول عن كُلِّ شاردةٍ وواردةٍ ، فالدِّين والشريعة ، وجملة الْمَعَارِف والْعَقَائِد والأَخلاق والآداب والسُّنَن وغيرها تُقرأ من صفحات عَالَم التَّكوين . وهذا ما يُوضِّح : نُكْتَة وفلسفة إِصرار القرآن الكريم علىٰ الصِّلة بين حقيقته وحقيقة عَالَم التَّكوين بِرُمَّتِهِ . فانظر : بياناته ، منها : بيان قوله جلَّ قوله : [وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ] [الأَنعام: 59]. والمراد من : (الكتاب المبين) : القرآن الكريم . فلاحظ : بياناته الأُخرىٰ ، منها : بيان قوله عزَّ من قائل : [حم *وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ] [الدخان: 1ـ3]. وعليه : فقراءة القرآن الكريم ـ بحسب ما يُستفاد من بيانات الوحي ، منها ما تقدَّم ـ ليست مُنحصرة بالمُصحف الشَّريف ، بل تشمل عَالَم التَّكوين أَيضاً . القضيَّة الثَّانية : /دُرُوْس مُذْهِلَة تستفيدها البشريَّة من مدرسة عَالَم التَّكوين/ وممَّا تقدَّم يتَّضح : أَنَّ كثيراً من النُّظُم القانونيَّة مُستفادة من خلال قراءة وتصفُّح علماء القانون للمجتمع الحيواني في الغاب ، وكثير من تعقُّل الدُّوَل العظمىٰ فيما بينها وحلّ الأَزمات ـ لا بوسيلة الإِحتراب والتصفيات ـ أَخذوها من أَجواء الغابة ؛ فإِنَّهم وجدوا في تعامل كواسر الحيوانات فيما بينها وفي مدٍّ نفوذها أُصولاً وأَخلاقيَّات وموازنات قوىٰ ، والإِلتجاء إِلى الحرب السَّاخنة لا يكون إِلَّا من باب آخِر الدَّواء الكَيُّ . وكذا وجد علماء الإِدارة من خلال تسليط عدسات المراقبة علىٰ مماليك نمل ـ يزيد سكَّانها أَضعاف سكَّان ولاية فلوريدا ـ : أَنَّها إِذا أَرادت الِانتقال وتغيير مكان مملكتها وفَّرت لها ما يُؤمِّن ويُنظِّم عمليَّة الِانتقال ؛ من مخازن أَغذية ، ومسؤولين ، وجيش ،وشرطة مرور وما شاكلها ، واستفادوا منها ـ أَيْضاً ـ : دروساً مذهلةً ، ونُظماً في علم الإِدارة لم تحفل بها البشريَّة من قبل قَطُّ . وهناك مقاطع كثيرة في عَالَم الخِلْقَة فهم منها أَصحاب الِاختصاص فِكرَاً جُدُداً للمساواة والعدالة والحريَّة. وهذا ما تُشير إِليه بيانات الوحي ، منها : ١ـ قوله عزَّ وجهه : [إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ] [القمر: 49]. ٢ـ بيان الإِمام الصَّادق (صلوات اللّٰـه عليه) في الخبر المُشتهر بتوحيد المُفضَّل بن عمر: «... يا مُفَضَّل، إِنَّ الشُّكَّاك جهلوا الأَسباب والمعاني في الخِلْقَة ، وقَصَرَت أَفهامهم عن تأَمُّل الصَّواب والحِكْمَة فيما ذَرَأَ الباري جلَّ قدسه وبرأ من صنوف خلقه في البرِّ والبحر والسَّهل والوعر ... فإِنَّهم لَـمَّا غَرُبَت أَذهانهم عن معرفة الأَسباب والعِلَل في الأَشياء صاروا يجولون في هذا العالم حيارىٰ ، ولا يفهمون ما هو عليه من إِتقان خلقته وحسن صنعته وصواب تهيئته ، ورُبَما وقف بعضهم علىٰ الشيء ؛ لجهل سببه والإِرْب فيه فيسرع إِلى ذمِّه ووصفه بالإِحَالة والخطأ ... يامُفَضَّل ، أَوَّل العِبَر والأَدِلَّة علىٰ الباري جلَّ قدسه تهيئة هذا العَالَم وتأليف أَجزائه ونَظَمها علىٰ ما هي عليه ، فإِنَّكَ إِذا تأمَّلت العَالَم بفكركَ ؛ وميَّزته بعقلكَ وجدته كالبيت المبنيّ المعدّ فيه جميع ما يحتاج إِليه عباده ... والإِنسان كالمُمَلَّك ذلك البيت ، والمخوَّل جميع ما فيه ... فكِّر يا مُفضَّل في خلقة عجيبة جُعلت في البهائم ؛ فإِنَّهم یوارون أَنفسهم إِذا ماتوا كما يواري النَّاس موتاهم ، وإِلَّا فأَين جيف هذه الوحوش والسِّبَاع وغيرها لا يُرىٰ منها شيء ؟ وليست قليلة فتختفي لقلَّتها ، بل لو قال قائل : إِنَّها أَكثر من النَّاس لصدق ... وكُلّها لا يُرىٰ منها شيء إِذا ماتت إِلَّا الواحد بعد الواحد يصيده قانص أَو يفترسه سَبُع فإِذا أَحسُّوا بالموت كمنوا في مواضع خفيَّة فيموتون فيها ، ولولا ذلك لِامْتَلَأَتْ الصَّحاري منها حتَّى تُفْسِد رائحة الهواء ويحدث الأَمراض والوباء ، فانظر إِلى هذا الَّذي يخلص إِليه النَّاس وعملوه بالتمثيل الأَوَّل الَّذي مُثِّل لهم كيف جُعل طبعاً وادِّكاراً في البهائم وغيرها ليسلم النَّاس من مَعَرَّة ما يحدث عليهم من الأَمراض والفساد . فكِّر يا مُفضَّل في الفِطَن الَّتي جُعِلَت في البهائم لمصلحتها بالطَّبْع والخِلْقَة لطفاً من الله عَزَّ وَجَلَّ لهم ؛ لِئَلَّا يخلو من نعمه جلَّ وعزَّ أَحد من خلقه لا بعقلٍ ورويّة ... وليس في الخِلْقَة شيء لا معنىٰ له ... فإِذا أَردتَ أَنْ تعرف سَعَة حِكْمَة الخالق وقِصَرَ علم المخلوقين فانظر إِلى ما في البحار من ضُرُوب السَّمَك ، ودوابّ الماء والأَصداف ، والأَصناف الَّتي لا تُحصىٰ ولا تُعرف منافعها إِلَّا الشيء بعد الشيء يُدْرِكه النَّاس بأَسبابٍ تحدث ؛ مثل القِرْمِز ؛ فإِنَّه إِنَّما عرف النَّاس صبغة بأَنَّ كلبةً تجول علىٰ شاطئ البحر، فوجدت شيئاً من الصنف الَّذي يُسمَّىٰ الحَلَزون ، فأَكلته ، فاخْتَضَب خَطْمها بدمه ، فنظر النَّاس إِلى حسنه فاتَّخذوه صبغاً ، وأَشْبَاه هذا مِمَّا يقف النَّاس عليه حالاً بعد حال ، وزماناً بعد زمان ... و هل يخفىٰ علىٰ ذي لبّ أَنَّ هذا تقدير مُقَدِّر ، وصواب وحِكْمَة من مُقدِّر حكيم ؟ ... ». بحار الأَنوار، 3: 57 ـ 151. ودلالته ـ كدلالة سابقه ـ واضحة . وعليه : فليس من الصَّوَاب أَنْ لا يَجعل المخلوق لشيءٍ ـ وإِنْ كان علىٰ نحو المفهوم ـ قدراً مُعيَّناً ، ومن ثَمَّ لابُدَّ أَنْ يُجعل للرأسماليَّة ، والصَّرَف ، والاِستهلاك ، والمفهوم : الِاقتصادي ، والزراعي ، والتجاري ، والجنس وَهَلُمَّ جَرّاً قدراً مُعَيَّناً ، ولا يُستثنىٰ من ذلك إِلَّا الحقيقة الأَزليَّة ؛ العزيز الجبَّار ، « الَّذي ليست له في أَوَّليَّته نهاية ، ولا في آخريَّته حدّ ولا غاية » . توحيد الصدوق، ب2: التوحيد ونفي التشبيه: 33/ح1. وبالجملة : الخِلْقَة الْإِلَهِيَّة وعَالَم التَّكوين قرآن يُعطِي دروساً لجملة النُّظم ، منها : القانونيَّة ، والإِداريَّة ، ومن ثَمَّ لا يُظنُّ أَنَّ عَالَم الخِلْقَة الْإِلَهِيَّة لُغَةٌ تُمارس في الخطاب الدِّيني فحسب ، بل تشمل كُلَّ ما يهدي البشريَّة ويُنَظِّم أُمورها وشؤونها الحياتيَّة والمعيشيَّة سوآء كان في الرؤية الأَيدلوجيَّة أَو الفلسفيَّة أَو الحقوقيَّة أَو القانونيَّة أَو السياسيَّة أَو الِاقتصاديَّة وَهَلُمَّ جَرّاً ، فالباري تبارك اسمه يُعطي من خلال عَالَم التَّكوين دروساً لا منتهىٰ لها ؛ وفي كُلِّ العلوم في كيفيَّة الهداية والرَّشاد ، من أَدقِّ التَّفاصيل إِلى أَعظم المحاور العقائديَّة . إِذَنْ : كُلُّ العلوم والمعارف مطويَّة في خِلْقَة عَالَم التَّكوين . وعليه : فلا يوجد اِختراع بشري البَتَّة إِلَّا وقد اُسْتُنْبِط واُسْتُخْرِج من ظاهرة تكوينيَّة مُعيَّنة، فالمَرْكَبَات الفضائيَّة ـ مثلاً ـ والطَّائرات والسُّفُن والغوَّاصات والصَّواريخ والأَقمار الصناعيَّة وكافَّة الأَسلحة وغيرها لابُدَّ أَنْ يكون اِكتشافها وتصنيعها مستفاداً من درس وكتاب تكويني لا يتصرَّم ولا يتقوَّض أَبداً، بسطته يد السَّاحة الْإِلَهِيَّة في عَالَم الخِلْقَة والتَّكوين. ولَكَ أَنْ تقول: إِنَّ هناك مطلباً توحيديّاً مُهمّاً يُوصِل الباري سبحانه وتعالىٰ معناه في نَمَطٍ من أَنماط الخِلْقَة الْإِلَهِيَّة ، حاصله : أَنَّ كُلَّ مشهدٍ تَكْوِيْنِيٍّ خَلَقَته وبسطته يَدُ السَّاحة الْإِلَهِيَّة عبارة عن رسالةٍ وخطابٍ منه تعالىٰ إِلى جميع مخلوقاته، فهو تكلِّمٌ بالخَلْقِ إِلى الخَلْقِ، وله مغزیٰ وتأويل، أَراد سبحانه به معنىً مُعيَّناً يتخطَّىٰ معنىً آخر، فقوله جلَّ وتقدَّس : [ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ] [النساء: 171] كَلَامٌ وتَكَلُّمٌ منه (جلَّ اسمه) مع المخلوقات بـ : (أَنَّه علىٰ كُلِّ شيءٍ قدير)، فكما أَنشئ النَّبيّ آدم عليه السلام من غير أَبٍ أَنشئ كذلك النَّبيَّ عیسی عليه السلام . وقوله تقدَّس ذكره : [لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ] [يوسف: 7] بيان علىٰ أَنَّ كُلَّ آيةٍ ودلالةٍ وجوابِ سؤالٍ يبتغيه المخلوق موجود في عَالَم التَّكوين، فعَالَم التَّكوين: عَالَم خطاب ونجوىٰ وكلام إِلٰهيّ. شمول ساحة التأويل للخطابات التَّكوينيَّة ثُمَّ إِنَّه ينبغي الِالتفات: أَنَّ أَهل المعرفة والفلاسفة والمتكلِّمين والعرفاء والصوفيَّة اِستفادوا من ساحة التَّأويل في منهاج أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الشيء الكثير، وساحة التَّأويل لا تقتصر علىٰ الكلام اللَّفظِيّ، بل تشمل الكلام التَّكويني أَيضاً، وهو خِطَابٌ من الباري تقدَّست أَسماؤه إِلى جملة مخلوقاته، فهو تكلِّمٌ بالخَلْقِ إِلى الخَلْقِ. ومعناه: أَنَّه لا يمكن للمُتدبِّر الوصول إِلى المعنىٰ العقلي إِلَّا بتوسُّط منهج التأويل، المستفاد جملة منه من عَالَم التَّكوين. وإِنْ شئت قلتَ: إِنَّ المَعْزَىٰ العقلي لا يمكن اِستخراجه بالمباشرة من ظاهر وسطح الكلام إِلَّا بقطع المُتدبِّر مسافة السَّطح إِلى العمق. القضيَّة الثَّالثة: الظَّواهر التَّكوينيَّة دالَّة علىٰ شؤون الحضرة الرُّبوبيَّة الظواهر التَّكوينيَّة لا تُقرأ إِلَّا باللُّغة العقليَّة إِنَّ الباري (عظمت آلاؤه) جعل من الظَّواهر التَّكوينيَّة مُنبِّهاً ودالاً على شؤون في الحضرة الرُّبوبيَّة. والأَصل إِيجاد الظَّواهر التَّكوينيَّة منه (جلَّ ذكره) مَغَازِي وأَغراض ومداليل يريدها (جلَّ وعزَّ)، لكنَّها لا تُقرأ بقوَّة ولغة: الحسِّ، والخيال، والوَهْم، بل بقوَّة ولغة العقل، وهي القوَّة واللُّغة الوحيدة الُمتَاح لها قراءة هذا النوع من الكلام، ومن ثَمَّ حصرت سِلْسِلَة من بيانات الوحي فَهْم جملة من الأَفعال التَّكوينيَّة، بل التَّكوين بِرُمَّته ـ كلُغة لها تأويل ـ بأُولي الأَلباب والفِطْنَة والكِيَاسَة، بخلاف أُسراء الحِسّ والخيال والوَهَم، فإِنَّهم لا يتمكَّنون من ذلك. القضيَّة الرَّابعة: لا يقرأ الطَّابَع الْإِلَهِيّ في العلوم إِلَّا نَوَابِغتها إِنَّ مَنْ يقرأ الطَّابَع الْإِلَهِيّ في علم الفيزياء ليس هو إِلَّا نَوَابِغه، وهم من تحصل لديهم ـ من خلال رؤية الجمال والعظمة الْإِلَهِيَّة في الأَفعال التَّكوينيَّة وما ورائها من عظمة ومصدر قوَّة وَحِكْمَة وَمُنَاجَاة منه سبحانه مع مخلوقاته ـ حالة خشوع وتذلُّل وقشعريرة للعظمة الْإِلَهِيَّة . وعلىٰ هذا قس سائر العلوم. القضيَّة الخامسة: ما يُدْرِكه العقل من عَالَم التَّكوين ويقطع به وحي تكويني إِنَّ كُلَّ ما حَكَمَ به العقل بنحو الجزم واليقين في دائرة البديهيَّات والمُحْكَمَات العقليَّة ـ والَّتي لا تقف عند حدٍّ؛ لكونها تتطوَّر وتَتَّسِع وتتكثَّر بتطوُّر العقل البشري عبر آلاف السِّنِيْن ـ وَأَدْرَكه من عَالَم التَّكوين فهو عبارة عن وحيٍ تكوينيٍّ إِلَهِيّ فطريٍّ، وليس هو وحي نُبوَّة، ولا وحي علم وإِلهام لدنِّيٍّ، بل وحي عَالَم التَّكوين، وهو يتَّسع لجملة المخلوقات، لكنَّ الإِستفادة منه لا تتمُّ إِلَّا بحسب مُكْنَة وقدرة وسَعَة تعقُّل المخلوق. وإِلى هذا تُشير بيانات الوحي، منها: بيان قوله عَزَّ وَجَلَّ : [وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ] [لقمان: 27]. (5) الاحتجاج، 1: 256.