/ الفَائِدَةُ : (170) /

28/05/2025



بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على محمد واله الطاهرين ، واللَّعنة الدَّائمة على أَعدائهم اجمعين. / حقيقة عَالَم الدُّنْيَا / عُبِّر عن عَالَم الدُّنْيَا في بيانات الوحي : أَنَّه دار غرور ؛ وذلك لأَنَّ القوانين التي تجري فيه لتنظيم الحياة الدُّنيويَّة ؛ وكُلَّ الْإِضَافَات للذَّات الإِنسانيَّة فيه أُمُورٌ اِعْتِبَارِيَّةٌ ؛ تُخَدِّرُ وتُسْكِرُ الذَّات ، وهذه القوانين والْإِضَافَات وعالمها ليست خالدة كخلود غيرها . فانظر بيانات الوحي ، منها : 1 ـ بيان أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : « أَلَا وإِنَّ الدُّنْيَا دار غَرَارَة خَدَّاعَة ، تنكح في كُلِّ يوم بعلا ، وتقتل في كُلِّ ليلةٍ أهلا ، وتُفَرِّق في كُلِّ ساعةٍ شملا »(1). 2 ـ بيانه صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَيْضاً : « فلا يغرَّنَّكم كثرة ما يعجبكم فيها ؛ لِقِلَّةِ ما يصحبكم منها »(2). 3 ـ بيانه صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَيْضاً : « اتقوا غرور الدُّنْيَا ؛ فإِنَّها تسترجع أَبَدًا ما خدعت به من المحاسن ، وتزعج الْمُطْمَئِنّ إِلَيْهَا والقاطن »(3). 4 ـ بيانه صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَيْضاً : « غَرَارَةُ غرور ما فيها ، فانية فَانٍ من عليها ، لا خير في شئ من أزوادها إِلَّا التقوى »(4). ودلالتها قد اِتَّضَحَتِ ؛ فإِنَّ المعاملات والقوانين والنُّظُمَ الجارية في عَالَم الدُّنْيَا أُمُورٌ اِعْتِبَارِيَّةٌ ، كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ الموت لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ؛ فلا ملكيَّة ولا أَموال ولا جاه ولا بنون . نعم ، قوانين عَالَم الدُّنْيَا وأحكامه التَّكْوينِيَّة لها سيطرة على المخلوق ؛ فالْبَرْدُ والْحَرُّ يؤذي ، والجوع والعطش يَقِضُّ وَهَلُمَّ جَرّاً ، فالمخلوق مَحْجُوبٌ في دار الدُّنْيَا ومَحْبُوسٌ فيها ؛ وكأَنَّه مُسَيْطَرٌ عليه . ومن ثَمَّ يحتاج توجُّه المخلوق لِسَاحَةِ الْقُدْسِ الْإِلَهِيَّةِ في عَالَم الدُّنْيَا إِلَى مؤونةٍ ووسيلةٍ . وهذا بخلاف الْعَوَالِم الصَّاعِدَة ـ كـ : الْعَالَمِ الْعَقْلِيِّ ـ ؛ فإِنَّ الأَصل والطبيعة الأَوَّليَّة فيها : التَّوجُّه والإِقبَال على الباري (جلَّ ثناؤه) ، أَمَّا الإِدبار فطبيعة ثانويَّة . بخلاف عَالَمُ الدُّنْيَا وعَالَمُ الجهل والقوى الغرائزيَّة الهابطة ؛ فالطبيعة الأَوَّليَّة فيها : الإِدبار عن سَاحَةِ الْقُدْسِ الْإِلَهِيَّةِ ؛ والاحتجاب عنها ، وهذا أَحد تفاسير بيانات أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ المعرفيَّة ، لكثير من بيانات الوحي ، منها : 1 ـ بيان قوله تعالى : [إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّار](5) . 2 ـ بيان قوله تقدَّس ذكره : [إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا* إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا](6). ودلالتهما قد اِتَّضَحْت ؛ فَإِنَّهُمَا ناظران الى طبقات حقيقة الْإِنْسَان النازلة ، وَإِلَّا ؛ فطبقات حقيقته الصاعدة نُورَانِيَّةٌ خيرةٌ . ومن ثَمَّ يكون الخطاب الأَوَّليُّ من قبل الباري سبحانه للجهل(7) في الحديث القدسي المروي عن الإِمام الصادق صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ في حديث جند العقل والجهل ـ « اعرفوا العقل وجنده ، والجهل وجنده تهتدوا ... إِنَّ الله عـزَّ وجلَّ خلق العقل ، وهو أَوَّل خلق من الروحانيَّين ، عن يمين العرش من نوره ، فقال له : أَدبر فأدبر ، ثُمَّ قال له : أَقبل فأقبل ، فقال الله تبارك وتعالى : خلقتك خلقاً عظيماً وكرَّمتك على جميع خلقي ، قال : ثُمَّ خلق الجهل من البحر الأُجاج ظلمانيَّاً فقال له : أدبر فأدبر ، ثُمَّ قال له : أقبل فلم يقبل فقال له : أستكبرت فلعنه ... »(8) ـ هو :(أدبر فأدبر)، والخطاب الثانوي له :(أقبل فلم يقبل). وهذا بخلاف الخطاب الأَوَّليُّ للعقل فإِنَّه :(أَقبل فأقبل)، والخطاب الثانويُّ له : (أَدبر فأدبر) . وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ الأَطْهَارِ . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) نهج السعادة ، ٣ : ١٧٤. (2) البحار ، ٧٣ : ١١٨ / ح١٠٩. (3) غرر الحكم : ٢٥٦٢. (4) نهج البلاغة : الخطبة ١١١. (5) إبراهيم : 34. (6) المعارج : 19 ، 20 ، 21 . (7) الجهل مخلوق جوهريٌّ ، وله طبيعة ظلمانيَّة . (8) أصول الكافي ، 1 / كتاب العقل والجهل / ح14